تناقضات الحضارة الغربيّة

00:41 صباحا
قراءة دقيقتين

عبداللطيف الزبيدي

هل استنتجتَ أمس من موضوع «مفارقات أقاصي الفيزياء» ما هو أهمّ من الموضوع نفسه؟ لقد أراد القلم تأجيل الأمر إلى اليوم، لأنه أكبر من أن يُقزّم في سطرين عابرين. القضية مأساة إنسانية، فمراكز البحث العلمي الغربية، المحلّقة في أقصى أقاصي أكبر كبير، في العناقيد المجرّية الفائقة، وفي أعمق عوالم أصغر صغير، في جُسيمات ما دون الذرّة، إنما هي مؤسسات رائدة، لولا أنها خضراء الدِّمَن، حسناوات في منابت سوء.
أنظمة دولها لها أصول وليس لها أصالة، فهي لم تتنكّر لجذورها الفندالية الفايكينجيّة، فقد هبّ الأحفاد في أوروبا الغربية لاستكمال ما لم تستطعه الأوائل. كان من الصعب على قدمائهم، لبُعد الأصقاع جغرافيّاً، أن تبلغ حوافرهم وسيوفهم أقاصي آسيا وأعماق إفريقيا، متحدّرين من أعالي البلاد الإسكندنافية.
يقول مؤرّخو الفن إن مجموع أعمال الموسيقى السيمفونية، لو بُثّ متتالياً بلا انقطاع، لاستغرق خمسمئة سنة، أضف إليها كل عطاءات الشعر والرواية والمسرح، وجميع إبداعات الفنون التشكيلية، وتوّجها بالمدارس الفلسفية والفكرية، في أوروبا الغربية، فما تفسيرك لعجز تلك الكنوز الحضارية عن ترويض الغرائز التدميريّة، التي مارست كل أشكال الإبادة والسحق العِرقي في الغزو والاحتلال، وانتهاك السيادة والاستقلال؟ ألم يقل الغربيون، من شمال القارة الجديدة إلى غربي القارة العجوز، إن ما يحدث في الشرق الأوسط إنما هو دفاع عن الحضارة الغربية، لهذا لم تتردد دولة منهم في تقديم كل غال لمحاربة الأدغال؟
أليس غريباً أن أقواماً لديهم أرقى الفنون وأعلى العلوم تطوّراً تكون سلوكياتهم على صعيد القيم الحضارية والأخلاق الإنسانية متجسّدةً في ما جرى للعراق وسوريا وليبيا وغزّة ولبنان؟ بداهةً، لا يمكن أن تكون تلك المشاهد إلا مقدمةً لجوهر موضوع وخاتمة. لكن، من أين للنوايا العربية الحسنة أن تدرك أسرار فنون الإخراج في كواليس الفوضى الخلاقة، التي فسّرها الراسخون في الاستراتيجية، بأنها «تسوية كل شيء بالأرض، وإعادة البناء على المزاج».
البشرى المشؤومة أن ترامب قال إنه «يريد أن يجعل غزة أجمل من موناكو». لكن، بشرط ألا يبقى فيها ديّار، وتصير قاعاً صفصفاً. لا داعي إلى التحسّر على ما فات. إنما يحزّ في النفس أن الحضارة الغربية ضحكت من الذقون بأعاجيب الألاعيب، فخرج الناس من محافل الاستعمار، بلا تطوير للتعليم، بلا بحث علمي، بلا صناعات حربية، بلا اقتصادات مفتولة السواعد، وبحاضر مبهم ومستقبل مجهول.
لزوم ما يلزم: النتيجة اليقينيّة: سخاء الحضارة الغربية هو أنها أنتجت لنا مسلسلاً عنوانه «الخدعة الكبرى»، حلقاته مستمرّة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ye2a4dz9

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"