من ترى يجرؤ على الضحك من الذقون بأن «الإشارات والتنبيهات في دور الثقافة»، يمكن حصرها وعصرها في عمود؟ لهذا سارع القلم إلى العودة إلى الموضوع. لا مفرّ من الإقرار بأن الثقافة العربية اليوم، ومنذ بضعة عقود، في امتحان الميزان. لكن الاعتراف لا معنى له ولا طعم ولا رائحة إذا لم يكن القرار حليفه. في غير هذه الحال تقنع الثقافة فتقبع في عقر دار معناها التجذيري التأثيلي: ثقّف العود أي أزال نتوءاته وبراه ليصنع منه سهماً يصيب ولا يخيب.
من كان يتصور حتى في الأحلام والأوهام أن قدماءنا في الجاهلية الأولى شقّوا للثقافة اسمها من حروف هذا الأصل، في تجليات استشرافية، كأنما استشمّوا من وراء القرون أن أحفاداً لهم بعيدين سيحتاجون إلى ثقافة تحمل في طيّاتها القدرة على الدفاع عن الذات، عن المقدرات، عن الحرمات وعن وجودهم. رمزية عجيبة في اشتقاق عالم الآداب والفنون والحكمة والإبداع، من تحويل الغصن الرطيب، وما في ظهوره وثماره من عبير وطيب، إلى سهم للدفاع عن النفس وحماية الوطن. لله دَرّكِ و دُرّكِ يا لغتنا الحسناء المنيعة. الثِّقافة، بكسر الثاء، العمل بالسيف في «لسان العرب»، يعني أن العربية أعطت الثقافة بعداً استراتيجيّاً قبل إطلاق الأمريكان سنة 1908 مصطلح «الثقافة الاستراتيجية» بأكثر من 15 قرناً.
هل يعقل أن تضع لغةٌ مئات المرادفات للسيف عبثاً لمجرد اللعب بمخارج الأصوات؟ أعداد هائلة بين أسماء وصفات. ما سرّ هذا التحشيد اللفظي وهذه الترسانة الصوتية؟ هذه الظاهرة دعوة صريحة إلى المثقفين العرب إلى التصالح مع ميراثهم الثقافي، وفي الأقل إلى عدم التضارب معه.
أيها الأعزاء، قبل عقدٍ كتب القلم في هذا العمود: «المتنبي لنا وشعره لهم». ما مفاده: هل العرب هم الذين عملوا بقوله «أعلى الممالك ما يُبنى على الأسلِ»، الرماح العوالي، أم القوى العظمى والأطماع المستشرية؟وأين بيض صفائح أبي تمّام؟ لا، بل أين سود الصحائف أيها المثقفون؟ هل تدرون أن ما تترجمه كوريا الجنوبية من لغات العالم في السنة يفوق بكثير كل ما يترجمه العرب جميعاً في عام؟
لزوم ما يلزم: النتيجة اليقينية: إذا لم تكن الثقافة طاقةً فاعلةً تنويريةً بناءةً، فما أقسى أن تكشف للعالم العربي أنه لا يشبه ماضيه ولا وزن له في حاضره.
[email protected]
https://tinyurl.com/3ffffyv9