د. محمد الصياد *
في كتاب «العرب واليابان..التجربة اليابانية في الميزان» الذي أعددته ونشرته في عام 2002 بعد زيارتي لليابان للمشاركة لمدة شهر في دورة تدريبية حول تجربة اليابان في مجال التنمية البشرية، سجلت أبرز مشاهداتي وملاحظاتي على ما أُطلق عليه يوماً «المعجزة اليابانية»، من حيث أن دولة آسيوية مهزومة ومدمرة في الحرب العالمية الثانية، هي الوحيدة في العالم التي تعرضت للقصف بالقنابل الذرية، قد نجحت في ظرف زمني قصير، في الخروج من تحت الركام، ليس فقط للعودة للحياة من جديد وحسب، وإنما النهوض كعملاق اقتصادي عالمي احتل لفترة من الزمن المرتبة الثانية اقتصادياً بعد الولايات المتحدة، من حيث إجمالي الناتج المحلي الاسمي. في الصفحتين (47 و48) من الكتاب، كتبت ما يلي: «اتخذت الإدارة اليابانية، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، اتجاهاً يركز على النمو بما مؤداه، تحلي الشركات اليابانية بالدينامية والإبداع والابتكار واتخاذ القرارات الشجاعة الدافعة للنمو. وقد كفل الفصل التام بين الملكية (مِلكية الشركة) وبين الإدارة، لمديري الشركات، اتخاذ ما يرونه مناسباً من سياسات وقرارات ابتكارية تركز على النمو أكثر من تركيزها على الربحية، وإن كان الاثنان يلتقيان في الهدف في نهاية المطاف. واعتمد اليابانيون في ذلك على مجموعة من مبادئ علاقات العمل تتمثل في التالي: المعاملة المتساوية لكافة العاملين دون استثناء، الخروج في رحلات جماعية، الترحيب بكل الاستشارات والآراء الصادرة عن العاملين، إظهار ملكة القيادة من خلال التفاني في العمل، المشاركة الإيجابية في احتفالات الزواج ومراسم تشييع جنازات العاملين، تنظيم حفل يومي للعاملين كل صباح، تشجيع الأنشطة الترفيهية والمساعدة في إنشاء الأندية الخاصة بها، مشاركة العاملين أنشطتهم الاجتماعية خارج ساعات العمل، دعوة العاملين إلى بيوتهم. ولم يتم الاكتفاء هنا بقيم الأبوة والعائلة (Paternalism and Familism) كوسيلة للحفاظ على العاملين والمديرين الأكفاء في الشركة - وقد كانوا في عداد الندرة خلال المراحل الأولى من تطور الاقتصاد الياباني بعد الحرب العالمية الثانية – وإنما أضيف إلى ذلك امتياز استثنائي وهو ضمان العمل مدى الحياة في الشركة التي يعمل بها الشغيل، وذلك لتأمين علاقة طويلة الأمد بين الشغيل والشركة».
فلا غرو أن تصدح في أرجاء مواقع العمل اليابانية أنشودة الشركة المحفزة للعمل. على سبيل المثال لا الحصر، تقول أنشودة شركة ماتسوشيتا الكهربائية الصناعية (Matsushita Electric Industrial Co.):
من أجل بناء يابان جديدة
دعونا نكرس قوتنا وعقولنا معاً
وأن نعمل بأقصى ما نستطيع لتطوير الإنتاج
ونرسل سلعنا إلى شعوب جميع بلدان العالم
بلا نهاية وبشكل متواصل
كما الماء المتدفق من النافورة
لتنمو الصناعة.. لتنمو.. لتنمو
بشكل هرموني وصادق
ماتسوشيتا الكهربائية
وهذا يُرينا مدى الولاء الوظيفي الذي يعادل الولاء الوطني الذي يظهره الشغيل الياباني لشركته، والذي يغاير به فلسفة الإدارة اليابانية عن نظيرتها الغربية من أن محتواها اجتماعي، في حين أن محتوى الإدارة الغربية، اقتصادي بحت.
في ثمانينيات القرن الماضي، كانت بلدان جنوب شرق آسيا التي أُطلِقت عليها حينها تسمية «النمور الآسيوية» (هونج كونج، سنغافورة، كوريا الجنوبية، تايوان)، مصدر الهام لبقية البلدان النامية. ولم تكن نماذجها التنموية تختلف كثيراً عن النموذج الياباني. فمجتمعات هذه الدول الأربع، مثلها مثل المجتمع الياباني، تتميز بخاصية لا تتوفر لدى المجتمعات النامية الأخرى، وهي الانضباط. فشعوب هذه البلدان عالية الانضباطHigh disciplined people. وهذا الانضباط يسري على قيمة احترام العمل، واحترام الوقت، والمثابرة التي لا تلين في التعليم والعمل المنتِج. وهذا ما انعكس معدلات نمو بسقوف عالية لم تدركها حينها بقية بلدان العالم قاطبة، المتقدمة والنامية على حد سواء. ورغم كثرة وتعدد المدارس والمذاهب التنموية السائدة في مختلف بلدان العالم، إلا أن نموذج النمور الآسيوية التي لم تعد تقتصر على الدول الأربع المذكورة، سيبقى محتفظاً بخصوصيته وميزاته المستمدة من ميراث شعوبها الثقافي، والتي لا تتوفر لدى بقية بلدان العالم، رغم أن علم الاقتصاد، بمدارسه المختلفة رسم خرائط طريق لسلوكها وبلوغ غاياتها التنموية.
* خبير بحريني في العلاقات الاقتصادية الدولية