ليس جديداً القول إن الدولة الوطنية الموحدة كانت، وستبقى، أول أهداف رعاة التقسيم والتفتيت ومن تبعهم من شياطين الداخل والخارج في أي عصر. وقد نكون الآن في ذروة واحدة من موجات التجزئة التي تهدف إلى العبث بالخرائط وتبديل معطيات الجغرافيا؛ سعياً إلى خلق «أوطان» جديدة لا روابط جامعة بين مكوناتها، ولا ولاء فيها إلا لمن يسبغ عليها الحماية ويطعمها.
المحاولات قديمة ومتكررة، وإن تبدلت في كل مرة الأدوات وأحصنة طروادة والوجوه التي تعتلي الدبابات تحت رايات غريبة وزائفة مبشّـرة بالنعيم المقيم، بينما النوايا مسكونة بكل خطط إحراق الأخضر واليابس، وتدمير البشر والبنيان. من هنا، يصبح السهر على حماية كل وطن متّحد، وسد ثغور الفتنة والتربص به فريضة فيها صون للنفوس والممتلكات، وضمان لمستقبل الأجيال الآتية التي تحاصرها من كل اتجاه دعوات التحريض على الكفر بالأوطان، والخروج على استقرارها، والتفلت من مواثيق وحدتها، والأواصر التي تشد بنيانها المجتمعي والقيمي.
إن مشاهد العبث بالأوطان وتعدد راياتها تتوالى أمامنا منذ أكثر من عقد، متعللة بالرغبة في الإصلاح، ومتمسّحة في الثورة على الظلم، والنتائج ليست في حاجة إلى تعداد أو إيضاح، ففي إحصاءات البشر الذين يساقون إلى الجحيم بدلاً من الجنان الموعودة، وفي الخرائب التي تنهض عليها عروش مزعومة وممولة، ما يرسّخ الإيمان بقيمة الاتحاد.
لا أحد يبرر ظلماً أو إهمالاً في جزء من خريطتنا، ولا أحد يمكن أن يدافع عن الافتئات على مكونٍ من مكونات هذا البلد أو ذاك، لكن أيضاً لا قبول بصيغ الاستدراج إلى مسالك ثبت بالتجربة اليقينية أنها لا تفضي إلا إلى إشاعة الفوضى التي لم تكن خلاقة يوماً ما، ولن تكون، ودفع الآمنين إلى ظلم أفدح وحرمان أقسى يتمنون معهما، لكن بعد خسائر لا تحصى، لو بقوا على عهدهم القديم.
مرة أخرى، لا تخيير بين سيّئ في بعض أوطان خريطتنا وأسوأ، إنما لتعديل المسارات وإصلاح المعوج، وأولها الاعتبار مما جرى ويجري لبقاع يراد لها أن تتمزق جغرافيتها لتخرج من التاريخ بعد أن يتفرق دمها بين الجبهات والميليشيات التي تستبيح كل شيء باسم الدين والوطن. وعلى قاعدة «بضدها تتميز الأشياء»، فإن الحقيقة التي لا تقبل مراء، هي أن خلاص الأوطان في اتحادها المؤسس على يقين بأن يد الله مع الجماعة المتفقة على وحدة الطريق والمصير، وهي وحدة تنشغل بالحاضر والمستقبل ولا تحيدها عن ذلك محاولات شق الصف.
إن ثمار القابضين على وحدتهم هي خير ما يمكن أن يُرفع في وجه العابثين بمقدرات شعوبهم وأوطانهم، فلا مستقبل يبنى في ظل زعامات من عجوة تأكل بعضها بعضاً أو يأكلها صانعوها ليأتوا بغيرها، ولا في ظل ولاءات لا حصر لها تحميها أسلحة متعددة الانتماءات. «الاتحاد قوة».. حكمة قديمة متجددة لمن يعي ويبصر.
https://tinyurl.com/3txe5hc2