تجريد الثقافة من الهوية

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

هل في الإمكان ألّا تأخذ الأمور على محمل الدعابة؟ في الحقيقة، ما كان ينبغي للقلم أن يجاوز قدره بمقاربة شؤون الثقافة والإعلام، «بَيْدَ أن له انتسابَا». المسألة ليست هيّنة، فماذا تساوي أمّة في مصافّ الأمم، إذا لم تكن وازنةً راجحةً بين الثقافات؟ في ضوء هذا السؤال البسيط: ما البحوث والدراسات التي أنجزها مفكّرونا ومثقفونا واضعين الثقافة العربية في ميزان الحياة العامّة، معطياتها وملابساتها ومدى حضورها وفعلها؟
في الجاهلية، كان من هو في مقام المثقف اليوم يتكلم بضمير الجمع «نحن»، كأنما حشر وحشد فيها «الكونجرس» و«البنتاغون» والآلة الإعلامية الجبّارة. في زمن عمرو بن كلثوم، لم تكن لقبيلة تغلب إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، ولا كلّ الطرق تؤدي إليها، فكيف صدح بالصادح وهدر بالجهير: «ألا لا يجهلنْ أحدٌ علينا.. فنجهلَ فوق جهل الجاهلينَا»؟ البرهان الاستراتيجي قاطع: «ملأنا البرَّ حتى ضاق عنّا.. وماءُ البحر نملؤه سفينَا». لعلك تعلم أن تغلب لم تكن دولة عظمى، أو عضواً في «الناتو»، لكنّ عنفوان الروح كان لديهم سلاحاً يُهاب ولا يَهاب. كيف يستطيع أحد أن يخيف قوماً بالصدمة والترويع، وشاعرهم جرير ينشد: «إذا غضبتْ عليك بنو تميمٍ.. حسبتَ الناس كلّهمو غضابَا»؟ هذه الأمثلة يمكن أن تحتل موسوعة.
الآن، من السهل أن يقهقه الساذج ويكركر الغافل: تلك أساطير الأولين، وأوهام المساطيل. لكن، هل لديك آلة حاسبة؟ اضرب القوة المعنوية لدى ابن كلثوم، والطاقة الروحية لدى أبي تمام والمتنبي وجرير، في أربعمئة مليون عربي، تسندهم ترسانة رياضيات وفيزياء، وأدمغة اختراع وإبداع وحاضر استشرافي يسبق غده، على مساحة أربعة عشر مليون كيلومتر مربع. ألا ترى بجلاء لماذا فعلت المخططات بالعالم العربي ما فعلت منذ ألف سنة وتفعل؟ هل أدركت أن فارق العملة ثقافي بحت؟
لك أن تأخذ الأمور على محمل المزاح والسخرية. تخيّل المشهد الطريف للثقافة والمثقفين العرب: في هذه الأوضاع المريبة التي لا تُقصّر فيها الفضائيات ليل نهار، في عرض حصاد الهشيم، والنار في الهشيم، بديعٌ عكوف أصحاب الرقيم الثقافي، على الفن القصصي في «مئة عام من العزلة» عن القضايا الحساسة العاجلة، والتقنيات الروائية غير المسبوقة في «ويطول اليوم أكثر من قرن» في غزّة. ألا يلوح لك وقوف الثقافة على هامش الفعل والحضور، أشدَّ إضحاكاً من نوادر المجادلات في جنس الملائكة؟
لزوم ما يلزم: النتيجة العجبيّة: مأساتان تتنافسان في السوء، تجريد الثقافة من الهوية، وتجريد الهوية من الثقافة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2y8yy7st

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"