في السنوات الأخيرة، أعادت الكثير من الكتابات التاريخية الجديدة النظر في الكثير من الحقائق الراسخة التي علقت في الأذهان، إما نتيجة لكثرة تداولها، وإما لتدريسها في مناهج التعليم، بل نشأت طرائق بحثية باتت تُعرف بأنها تهدم المستقر والثابت في معرفتنا التاريخية التقليدية، منها ما يطلق عليه تيارات التاريخ البديل، أو التاريخ من أسفل.. إلى آخره.
من ضمن هذه الأفكار المستقرة كحقائق ما تداولته مدونات التاريخ لسنوات حول عصر النهضة الأوروبية، فتلك الحقبة شهدت اختراع المطبعة وازدهار العمارة والرسم وبدايات الفلسفات الكبرى، وعندما يذكر هذا العصر فإننا تلقائياً نستعيد أسماء غوتنبرغ و ليوناردو دافنشي وغيرهما العشرات، ولكن في كتابها «المنسيات العظيمات» تنتقد الباحثة تيتيو لوكوك هذا العصر، حيث شهد القرن السادس عشر حرق أكثر من 40 ألف امرأة في أوروبا؛ بتهمة ممارسة السحر، هذا بالإضافة إلى مطاردة ونفي عشرات الآلاف غيرهن.
لم يكن ذلك العصر واحة غنّاء للعقل والأفكار الحرة، وبإمكاننا نحن أن نضيف إلى مسألة حرق الساحرات، حركة بداية الكشوف الجغرافية وما صاحبها من نهب ثروات الآخرين وإبادة شعوب كاملة، ونشأة خطاب مزدوج المفاهيم، فالرجل الأبيض منذ تلك اللحظة حمل رسالة تمدين العالم ولكن عبر غزوه واستعماره.
كتابات أوروبية وأمريكية كثيرة راجعت التاريخ من أكثر من زاوية نظر، فالقرن التاسع عشر لم يكن بدوره عصر الاكتشافات العلمية فقط، ولكنه تميز بفجوة طبقية هائلة بين الأثرياء والفقراء، وشهد ذروة صعود الرأسمالية، ولكنه أيضاً العصر الذي ابتكرت فيه أيقونات أدبية معبّرة ومرعبة في الوقت نفسه مثل دكتور فرانكنشتاين، والرجل الذئب، وأسطورة جيكل وهايد، وكلها تصور تأثيرات سلبية بل مأساوية للرأسمالية على أخلاق وسلوكيات البشر. والحال نفسه نلمحه في إعادة تقييمات للقرن العشرين الذي برغم إنجازاته فإن البعض يصفه بأكثر القرون عنفاً ودموية في تاريخ الإنسان.
في العالم العربي لا تزال قراءات التاريخ الجديدة قليلة، وعلى استحياء، وتدور في المجال الفكري غالباً، ففي إحدى دراساته وصف الناقد السعودي محمد عبد الله الغذامي عصر النهضة العربية بأنه كان مشعرناً، وهناك من الباحثين الذين يصفون تلك النهضة بأنها اقتصرت على الفكر والثقافة بالدرجة الأولى، فمعدلات الأمية خلال المئة عام الممتدة من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين كانت مرتفعة للغاية، والخدمات الصحية كانت متدهورة، وساد الفقر حتى انتشر الحفاء، وكانت الفوارق الطبقية صارخة، ونحن ننسى أن أديباً ومفكراً بوزن طه حسين لم يستطع أن يسكت عن تلك الأوضاع، فأصدر كتابه «المعذبون في الأرض» في عام 1949، والذي صوّر فيه تلك الأوضاع من مختلف جوانبها، وهو الكتاب الذي صودر حينها ولم ينشر إلا بعد قيام ثورة يوليو/تموز 1952.
لم يكن التاريخ يوماً رواية واحدة، والماضي لم يكن بدوره جميلاً، وعاش البشر في جميع الأزمان بإيجابيات وسلبيات، وقدموا إنجازات وارتكبوا أخطاءً وخطايا، ودور المؤرخ رصد كل ذلك بأكبر قدر من الحيادية، وذلك حتى يكتمل فهمنا للتاريخ واستيعابنا له.
https://tinyurl.com/4727dmub