ينقل مؤلف كتاب «التاريخ والذاكرة» جاك لوغوف، عمّن وصفهم بالمُنظّرين الأكثر صرامة للتاريخ الوضعي، القول: «لا توجد وثائق.. لا يوجد تاريخ»، والقصد أنه ما لم تتوفر وثائق توثق لواقعة معينة، فإنه لن ينشأ تاريخ يعتدّ به حول تلك الواقعة. قد تسعف الذاكرات الشفهية لمن صنعوا تلك الواقعة أو كانوا شهوداً عليها في توضيح جانب من الأمر، ولكنها وحدها ليست كافية، لأن حكي تلك الرواية من قبل شاهد أو مشارك في أحداثها ينطوي على رؤيته الخاصة أيضاً، التي ليست موضوعية أو محايدة بالضرورة، وهذا ينطبق أيضاً حتى على ما يدونه مثل هؤلاء من سيرة أو مذكرات، فهي، على أهميتها، لا تصنف في خانة الوثائق التي قد تكون بيانات أو أرقاماً موثقة وموثوقة أو اتفاقيات مبرمة وموقعة من طرفين أو أكثر.
يقف مؤلف الكتاب أمام هذه المعضلة، وهو يناقش متى تصبح الوثيقة وثيقة، فليس كل ورقة تعود إلى الماضي يمكن أن تدخل في تصنيف الوثائق، فهي لا تصبح كذلك إلا نتيجة بحث واختيار، وليس المؤرخ وحده من يقوم بهذه المهمة، فيلزمه لذلك فريق من المساعدين «الذين يشكلون احتياطي الوثائق التي يستقي منها المؤرخ توثيقه: الأرشيف، التنقيبات الأثرية، المتاحف، المكتبات»، وغيرها، ففقدان الوثائق وجودة التوثيق من المعضلات الكبرى التي تواجه أي مؤرخ.
لأن الحديث يدور عن الوثائق ومعضلات الوصول إليها نقف عند معضلتين: الأولى أنّ مراحل تاريخية معينة لم تعرف التوثيق على الإطلاق، فلا توجد أدلة مدوّنة تقدم معطيات عن مجريات الأحداث فيها، فيلجأ المؤرخ إلى عقد مقارنات بين وقائع فعلية جرت في مجتمعات قريبة أو مشابهة تتوفر حولها بعض الوثائق، من أجل أن يضع تصوراً، حتى لو كان، في جانب منه، متخيلاً لما كانت عليه الأحوال في الحقبة والمكان اللذين يدرسهما. أما المعضلة الثانية فهي إلى أيّ مدى يعتدّ بصدقية ما قد تقع عليه يدا المؤرخ من «وثائق» قد لا تكون حقيقية أو صادقة، فالتاريخ نفسه لم يسلم أبداً من التزييف أو التزوير، وحتى «الانتحال» إذا جاز لنا استخدام مفردة طه حسين وهو يتحدث عن انتحال الشعر الجاهلي.
ثمة جانب آخر في الأمر، قد يصحّ أن نعتبره معضلة ثالثة تضاف إلى السابقتين، ألا وهو ما عرفه التاريخ من إخفاء الكثير من وثائقه وربما إتلافها كلياً، كي لا تقع في يد أحد من مجايلي من أخفاها ولا من تلاهم، والغايات هنا مختلفة، قد يكون بينها إخفاء أدلة على تورط فرد أو جهة في جرم كان سيحاسب عليه في زمنه، وربما فكّر أيضاً ألّا يترك أثراً يدينه التاريخ عليه.
https://tinyurl.com/2epkj74a