عادي
في شاعرية البصر

«الكوفي النيسابوري».. رشاقة الحرف

00:05 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمد خشان

الشارقة: جاكاتي الشيخ

ظلت العديد من الخطوط العربية محتفظة بأناقة حروفها رغم عدم إقبال الفنانين على الكتابة بها، مقارنة ببعض الخطوط الأخرى، وهو ما انتبه إليه قلّة من الخطاطين المعاصرين، فاشتغلوا على تنفيذ العديد من أعمالهم بها، كاشفين المزيد من الجمال الذي يختزنه فن الخط العربي في تنوعه وتعدد أساليبه، ومن بين الفنانين الذين عملوا على ذلك الخطاط السوري محمد خشان.
يعدّ الفنان محمد خشان واحداً من الخطاطين الشباب الذين يحملون على عواتقهم مهمة إعادة تجديد الفنون العربية القديمة، وخاصة الخطوط المندثرة، من أجل إخراجها للنور بشكل فني معاصر، وذلك لما يتميز به من إتقان لفن الخط العربي الأصيل، حيث قدّم في معظم أنواعه أعمالاً فنية رائعة، أبانت عن قدرات حقيقية، تبرز في الزوايا الجمالية التي يحرس على إبدائها في لوحاته، فمن السهل أن يكتب أي فنان لوحة يلتزم فيها بالقواعد العامة للخط العربي، إلا أن خشان من أولئك الفنانين الذين تتجلّى في إبداعاتهم روح الشغف التي تمكّنهم من التوغل إلى أسرار هذا الفن الجميل، حتى يقدموه للمتلقي في حُلَلَه المشرقة، مثل ما يظهر في اللوحة التي بين أيدينا.
أصالة
اختار خشان للوحته جزءاً من نص الآية 53 من سورة الزمر، التي يقول فيها الله جلّ من قائل: ﴿لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ﴾، وهي آية يبشر فيها ربنا عباده بألا ييأسوا من رحمته، ويقولوا قد كثرت ذنوبنا وتراكمت، فلا سبيل لإزالتها ولا صرفها، ويظلون، بسبب ذلك، مصرّين على العصيان، ويزيدون في ما يغضب عليهم ربهم، بدل السعي إلى التوبة، بعد معرفته بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، فهو الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وشملت مغفرته الذنوب جميعاً، بكبائرها وصغائرها، كما أن رحمته تفريج للكروب في الدنيا ورفع للبلاء وتيسير للأمور، ومغفرة في الآخرة، والآية نهي لهم عن القنوط من تلك الرحمة، ودعوة إلى أن يثقوا بغفرانه، بدل اليأس الذي قد يدفعهم إلى أن يُلقوا بأيديهم إلى التهلكة بالإصرار على المعصية والمضي فيها.
وقد كتب خشان لوحته بالخط النيسابوري الذي يعد أحد أجمل فروع الخط الكوفي، رغم أنه يعد من الخطوط المندثرة، ما جعل بعض الخطاطين يعملون على إحيائه بلمسات معاصرة تعكس أصالته وحسنه، وهو خط يتميز بتناوب الغلظ والرهافة في حروفه، حيث تكون دقيقة ومنسابة، وكبيرة في ذات الوقت، بسبب استطالتها، كما يتميز بعدم تقبله لإضافة الحركات الإعرابية، وبالتناغم بين لون كتابته، الذي يكون في الغالب بالحبر الأسود، وبين الفراغات التي تخلفها منحنيات حروفه واستقاماتها، وبعلاقة كُتله الخطية بالفراغ في مجمله، إضافة إلى الخصوصية والجمال التي تضفيها عليه التعريقات الثابتة في قمم حروفه العمودية، وفي نهايات قواعدها السفلى أحياناً.
رشاقة
صمّم خشان لوحته بتكوين يتناسب مع نوع الخط الكوفي النيسابوري، حيث نفّذها في مساحة كبيرة، وكتبها بطريقة واضحة، فتناسقت الحروف الممدودة وتماثلت، واحتلت الحروف الأخرى أمكنة بارزة لتظل الكلمات في وضوحها اللازم في هذا الخط، فقد انطلق في كتابة النص من اليمين، بادئاً باللام ألف «لا» التي جعلها ممتدّة نحو الأعلى، مقارباً بين لاميها في رشاقة بديعة، وكأنه يريد تنبيه القارئ إلى النهي الوارد في الآية من الله جلّ جلاله لعباده، ثم كتب «تقنطوا» عريضة في المستوى السفلي كقاعدة للشكل، للإشارة إلى شدّة تأثير وقع القنوط على المذنبين، حيث يجعلهم يَيْأسُون من لطف الله، ثم كتب «من» في المستوى الأوسط، منفردة وواضحة الحروف، تحضيراً للإشارة إلى ما لا يُراد منهم القنوط منه، ثم كتب بعدها وفي ذات المستوى «رحمة» بشكل عريض، وقد قاطع معها الأجزاء الممدودة من «تقنطوا»، للدلالة على أنها هي ما ينهى الله عن القنوط منه، وكأنه يريد الإشارة إلى أن رجاء الرحمة أولى من القنوط، ثم كتب اسم الجلالة «الله» في المستوى العلوي، ماداً عنق حرف الهاء، ومُقاطعاً بينه كذلك وبين الأجزاء الممدودة من «تقنطوا»، وكأنه يريد من القارئ المشاهد أن يمُدّ قراءة «الله» لاستشعار فضله، وطاعته في عدم القنوط من رحمته التي وسعت كل شيء.
وقد أبدع خشان في الشكل العام للوحته، فبدت في هيئة من الجلال والجمال تذكِّر بجلال الله وعظيم قدرته وجميل عفوه، وهو ما ساعدت الخصائص الفنية للخط النيسابوري على تنفيذه، لما تتميز به حروفه وكلماته من رشاقة، خاصة عندما كتبت بالحبر الأسود على الورق المقهّر البرتقالي، وزيّنت بزخرفة بديعة تزيدها أناقة في عين المتلقي، فكانت دلالة هذا التكامل موحية بدلالة رحمة الله لعباده فهو الغفور الرحيم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n89vh74

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"