يتقدّم مصطلح التربية على قرينه التعليم في كل المسميات ذات الصلة بالمؤسسات التي تُعنى بالتعليم، إدراكاً من اختصاصيي التنشئة والبناء الإنساني على أن التربية أساس العملية التعليمية، وهي ملازمة للتعليم في كل مراحله، وبشكل أدق في المرحلة التأسيسية التي تشمل المرحلتين الابتدائية والإعدادية، وفي وقتنا، يلتحق الطفل في مراحل الحضانة الأولى والثانية قبل التحاقه بالتعليم الرسمي، ويُفترض أن تبدأ التربية منذ اللحظة التي يخرج الطفل فيها من بيت أبويه وينضم إلى المجموعة، حيث يبدأ بالتعرّف إلى واجباته وحقوقه.
أما بالنسبة للمدرّسين، وما أعرفه كأكاديمي عملت في مؤسسات تعليمية عليا، وما يفترضه المنطق العملي الميداني، أن على المدرس الحصول على دبلوم تربية قبل انخراطه في سلك التعليم، حتى يكون مؤهلاً للتعاطي مع طبائع التلاميذ المختلفة، ومع سلوكياتهم وبيئاتهم، ويستطيع التعامل مع أي مشكلة تربوية أو تعليمية وإيجاد حلول لها، ومن جهة أخرى لديه إدراك تام وقدرة على اكتشاف أصحاب المواهب والمهارات والنوابغ والمتميزين، ومتابعة ذلك مع الإدارة والمدرس المختص وأولياء الأمور، فصاحب الموهبة والنابغة ثروة وطنية وعلمية ومستقبلية تثري مسيرة تنمية المجتمعات والأوطان، إلى كل ما هنالك من صفات ونتائج ومخرجات إيجابية.
في مجتمعات معيّنة، كاليابانية عل سبيل المثال، تبدأ التربية السلوكية منذ اللحظة التي تطأ قدما الطالب المدرسة، يبدأ بتلقّي المعلومات والتوجيهات والمعارف التي تهيِّئه للعيش في المجتمع بسلام، فيتعرف إلى حقوقه وواجباته في المدرسة والبيت والمجتمع، وهي ذاتها التي يجب أن يتحلّى بها تجاه وطنه، وهي مجموعة من المبادئ السلوكية المنطوية على احترام المكان والآخر والملكيات العامة، إضافة إلى عادات وتقاليد وطنه، وأشياء أخرى تكفل له أن يصبح مواطناً صالحاً يراعي القوانين ويطبّقها.
في وطننا، الإمارات العربية المتحدة، ولله الحمد، وللقائمين على التربية والتعليم، هنالك مادة تتعلق بالتربية وتهذيب السلوك، وهي مادة أصيلة في المنهاج الإماراتي في المدارس الحكومية، وقد تم ترسيخها منذ سنوات لتكون مادة مفصلية تسهم في انتقال التلميذ من مرحلة إلى أخرى.
وفي وطننا أيضاً مدارس خاصة تجمع تلاميذ من مختلف الجنسيات والثقافات والبيئات، تتعامل مع مناهج مختلفة تعتمدها وزارة التربية والتعليم، ولا أدري حقيقة وجود مادة مخصّصة للسلوك، لكن ما أسمعه من قصص من تلاميذ صغار وأحياناً من كبار، تجعلني أشكّ بوجود هذه المادة، بل ما يتناقله الآباء عن أطفالهم الصغار، أعني في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، وبشكل أكثر كثافة في المرحلة الثانوية، يجعلني أقرب إلى اليقين من أن هذه المادة غير مُفعّلة أو غير موجودة، وهذا لا يعني أن طلبة المدارس الخاصة جميعاً لديهم سلوك يحتاج إلى تقويم، لكن بعض القصص تقول بوجود تلاميذ يحتاجون إلى انتباه أكثر.
أنا أعلم أن المدارس التي تعلّم التلاميذ بغير اللغة العربية، تضم ثقافات وطبائع مختلفة، وربما حالتهم المادية جيدة، وبالتالي تتوفر لديهم الهواتف المحمولة و«آي باد»، المزودة بالإنترنت، المفتوح على العالم بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، أي يستطيع التلميذ الإبحار في الشبكة العنكبوتية بحرية، ويحتك بثقافات كثيرة، ويكون عرضة لبعض المحتويات غير المناسبة لعمره، إضافة إلى ذلك، يبدو أن المدرسين يهتمون فقط بتزويد التلاميذ بالعلوم من دون القيم والأخلاق والآداب، ومن دون تعليم التلاميذ أساليب المحادثة المؤدبة والجميلة.
ومن جهة أخرى، حين يشعر التلميذ أن كل رغباته متحققة، يتحوّل إلى إنسان أرعن، ويعتقد أن الدنيا كلها تحت أمره، وإلا كيف يجرؤ تلميذ في الثاني إعدادي أن يصف معلّمه بأوصاف قبيحة أمام والديه، وكيف يتجرأ تلميذ آخر في المرحلة ذاتها، وبعد نقاش مع مدرسّه أن يقول له: أنا لا أفهم الدرس لأنك مدرّس سيء bad teacher؟! هذه عيّنة من سلوك التلاميذ، أما سلوك المدرسين، وسنبقى في السياق ذاته الخاص بالتلميذ الذي نعت المدرس بالسيئ، فقد قال التلميذ للمدرس: إنه لم يفهم الدرس، فوبّخه وآلمه بالتوبيخ واتهمه بالكسل، رغم أن التلميذ جيد في المواد الدراسية، وهنا، نقول أن واجب المدرس إعادة الشرح، أو تخصيص وقت للتلميذ لشرح الدرس، أو الوقوف على أسباب عدم الانتباه التي قد تتعلّق بمشكلة مع الزملاء أو في البيت أو أي سبب آخر.
وهناك قصص كثيرة توحي بأن المدرسين لم ينخرطوا في دبلوم التربية، أو ربما عدم وجود مادة السلوك في المدارس الخاصة، وهنا لا أعمّم ولكنني أطرح قضية في حاجة إلى الانتباه والمتابعة والتدقيق، وفي حاجة إلى تغيير نهج التعاطي مع الأبناء من حيث الوفرة وتلبية الرغبات والدلال، فكل شي يزيد على حدّه ينقلب إلى ضدّه.
نحن أمام جيل مختلف عن سابقه، من حيث الظروف المادية أو المعلوماتية أو الانفتاح على المعارف الإنسانية، بل إنه مختلف في إحساسه بذاته وثقته بنفسه، ومختلف في عصبيته الدائمة، وشخصياً، أعيد هذه الصفة الأخيرة إلى إدمان الإنترنت، الذي يؤثر في عمل الدماغ والأعصاب، ما يجعله يؤثر في أسلوب الخطاب مع الأهل والمدرسين والزملاء، وهذا مبحث آخر قد نتناوله في مقال لاحق.
https://tinyurl.com/mu3zhd2u