عادي
في شاعرية البصر

«خط الثلث».. الحكمة توأم الجمال

19:52 مساء
قراءة 4 دقائق
أيمن غزال

الشارقة: جاكاتي الشيخ

يتميز العديد من الفنانين بالقدرة على التقاط النصوص الجميلة الملائمة لأعمالهم الفنية، والتي تجمع بين جمال الشكل وعمق المضمون، وذلك بالتركيز على كلماتها وحروفها، حيث تكون قابلة لأن تفي بغرض الجمال البصري والعمق الدلالي، الذي يرقى بأعمال الخط العربي عن أن تكون مجرد كلمات مرسومة بطريقة فنية، مثل ما يقوم به الخطاط السوري أيمن غزال.
يشتهر غزال بتقديمه للعديد من الأعمال الخطية التي تتجلّى فيها ممارسة خطية غاية في الجمال، تحيل المشاهد في غالبيتها إلى عوالم روحية آسرة، تكشف الكثير من المعاني، التي تُدخل إلى لحظات من التأمل في حسن الحرف، وذلك لأنه لا يختار مضامينه بعشوائية، بل تكون دائماً من النصوص ذات الدلالات العميقة مثل اللوحة التي بين أيدينا، والتي تعكس طريقته في الاستفادة من القواعد التقليدية لأنواع الخط العربي وطبعها بميسم الحداثة الفني في الوقت نفسه.
* تكامل
اختار غزال أن يكتب المقولة المأثورة التي تقول: «مَنْ مَنَّ مِنْ مَنٍّ مُنَّ مِنَ المنّان»، وتعني أن الذي يُعْطي الناسَ من ما لديه من نِعَم، ويتفضّل عليهم بالخير لوجه الله، دون أن ينتظر من ذلك أي مقابل، يعطيه الله من فضله الكثير، لأنه جلّ وعَلا هو المنّان أي الوهاب الذي جعل اسم «المنّان» من أسمائه الحسنى، وجاء بصيغة مبالغة لأنه يُكثر في عطائه لمن شاء، وقد اختار الخطاط هذا النص لسببين، أولهما ذلك المعني عميق الدلالة، وثانيهما شكل النص الذي وجد فيه جمالا بصريا يستحق أن يقدم للمشاهد في حلّة فنية من الخط العربي، وهو ما وفّق فيه إلى حد كبير.
وقد كتب نص اللوحة بخط الثلث، ملتزماً ببعض أهم خصائصه، كما يظهر في التكوين النصي الذي طاوع أنامله بمرونة وانسيابية بادية، لتبدو الحروف والكلمات في هيئات مختلفة، ما بين التقويس الطفيف والانبساط والاستلقاء والمدّ والتشابك والتداخل أحياناً، لينال كل واحد منها حقه من الأبعاد اللازمة لظهوره بشكل واضح، ويتم التراكب والتقاطع بين بعض الحروف والكلمات تحقيقاً لنسق البنية الخطية المتكاملة، هذا بالإضافة إلى اعتماده على حسٍّ حداثي في تصميم الشكل العام، ما مكنه من تنفيذ تكوين محكم، حسب رؤيته الخاصة لشكل اللوحة، دون أن يؤثر ذلك في أن يظل العمل بمميزات خط الثلث التقليدي المعهودة.
* لازمة بصرية
صمم غزال لوحته في تكوين دائري، ذي طابع تشكيلي، مستفيداً من قوة قاعدة خط الثلث في تكرار هيئة «من»، التي شكّلت لازمة بصرية للعمل، بسبب ورودها في النص ستَّ مرات، مع تغير معناها في كل مرة، فكتبها بشكلها الحروفي باللون الأزرق متوسطّة التكوين الخطي، ومُكرَّرة بعدد ورودها في النص، لتطبع العمل بأسلوب متناسق في مجمله، ثم كتبها محيطة بالشكل الحروفي حسب ورودها في النص، وبالتشكيل الدقيق، وكأنه يمنح المشاهد مفتاحاً لقراءة العمل فنياً، حيث انطلق من يمين الجانب السفلي في اتجاه عقارب الساعة، فكتب «مَنْ» التي تعني الاسم الموصول (الذي)، إشارة إلى من تعنيه المقولة، ثم كتب «مَنَّ» متوسطّة الجانب السفلي من الشكل، في مُنتصف دوران الساعة، للإشارة إلى أن فعل العطاء الذي تعنيه هذه الكلمة هو الذي تبنى عليه المقولة بكاملها، وهو نصف الطريق للثواب، ثم كتب حرف الجر «مِنْ»، وأتبعه بـ «مَنٍّ» التي كتبها في الجانب الأيسر من الأعلى ليوحي بعُلُوّ قيمة العطاء الذي تعنيه، وعظم شأنه، وكونه الموصل إلى الغاية، ثم أتبعها بفعل «مُنَّ» المبني للمجهول والمشير إلى من سيُعطي من يعطي الآخرين، وقد جعلها في قمّة الشكل وفي تمام دوران الساعة، للإيحاء بقوة دلالتها في النص، لأنها تعني تمام الثواب الذي يحصل عليه المتفضّل بعطائه، كما جعلها مقابلة لـ «مَنَّ» المكتوبة في الأسفل، وكأنه يختصر المقولة في أن «مَنْ منَّ مُنَّ»، ومِن مَنْ سيحصل ذلك المُعطِي لغيره؟ «مِنَ المَنّان» جلّ جلالُه، والتي كتب جزئيها «مِنْ» و«المَنّان» في نفس المكان، وفي الجانب العلوي من يسار النص، كاستئناف في اتجاه عقارب الساعة، وذلك للدلالة على أن فعل الخير للناس مُثابٌ من الله بزيادة الفضل والرزق، من أجل استئنافه ومواصلة فعله.
وقد وُفقّ الخطاط في استخدام الزخرفة المتوسطة للتكوين الخطي والمحيطة به، والدائرة التي توحي بهيئة الساعة، بالإضافة إلى مواءمة الألوان لدلالات النص، حيث تجمع رمزية الأزرق بين الثقة والمسؤولية، والصدق والإخلاص، وهي الصفات التي يتصفّ بها عادة من يداوم العطاء، ويرمز الأحمر إلى قوة الإرادة والطموح التي تجعل المعطي يمضي في فعله طمعاً في زيادة الله لفضله عليه، بينما يدل الأصفر على أن صاحب هذا الفعل يقوم به عن وعي تام لجدواه في نفع الآخرين وثوابه عليه.
* إضاءة
ولد أيمن غزال سنة 1980م، وهو خطاط ومدرّس للخط، يعمل حالياً في برنامج «كتاتيب» الذي تنظمه دائرة الثقافة في الشارقة لتدريس الخط في المساجد، وشارك في عدة ملتقيات وفعاليات مهمة للخط العربي مثل: ملتقى الشارقة للخط العربي سنوات 2008، و2010، و2016، وملتقى مجمع الملك فهد لأشهر خطاطي المصحف الشريف في سنة 2011، ومهرجان الزرقاء لفن الخط العربي والزخرفة الإسلامية 2010، وحصل على عدة جوائز في مختلف أنواع الخط العربي، وكان أكثرها في خط النسخ.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdjxr7kv

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"