عادي
صدر في الشارقة

«وحده الحالم يصحو».. الفلسفة على قافية الشعر

20:25 مساء
قراءة 5 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

الناشر: دار روايات
لعل من أكثر المؤلفات جاذبية تلك التي تجمع بين الأدب والإبداع والفكر في نص واحد يعلي من شأن التأمل ويطرح الأسئلة الصعبة المتعلقة بالوجود ويناقش المفاهيم التي يؤمن بها الإنسان، تلك هي اللحظة التي تصبح فيها القراءة متعة حقيقية، حيث يوظف القارئ في عملية الاطلاع عقله ومشاعره وكل تجاربه من أجل الوصول إلى المعنى الكامن بين السطور؛ بل يتوصل إليه من خلال التأمل والتفكير أي أن يكون القارئ شريكاً للمؤلف.
كتاب «وحده الحالم يصحو»، للكاتبة البلغارية ماريا بوبوفا، الصادر في نسخته العربية عن دار روايات، في طبعته الأولى عام 2022، من المؤلفات التي تستفز القارئ، وذلك بما يحمل من رؤى وأفكار مغايرة بسرد أقرب للطريقة الروائية، وبطابع فلسفي يلتقط ثمار المعاني من أشجار الحياة والواقع والتجارب الإنسانية، ويناقش العديد من القضايا والمفاهيم، ويحاول بشدة أن يخرج عن طرق التفكير السائدة ويحطم المسلمات التي رسخت في الأذهان كنتاج طبيعي للوعي الزائف وغياب الحقيقة، وحتى يقرب المعاني فهو يطرح العديد من الصور والمقاربات والاستشهادات، ويسافر عبر الأزمنة والعصور المختلفة في سياق التنقيب عن الحقائق، ويطل على العالم المعاصر في وقتنا الراهن الذي تكاد أن تغيب عن أفقه قيم الحقيقة والحب.
*استكشاف
الكتاب يستكشف تعقيدات مفهوم الحب، ويعكس ذلك البحث البشري المضني عن الحقيقة والمعنى، وذلك من خلال الحيوات المتداخلة لشخصيات تاريخية عديدة عبر أربعة قرون، بدءاً بيوهانس كيلر عالم الفلك الذي اكتشف قوانين حركة الكواكب، وانتهاء بريتشل كارسن عالمة الأحياء البحرية والكاتبة التي ألهمت مواطنيها إقامة حركة الحفاظ على البيئة، ويمتد بينهما جمعٌ من الفنَّانين والكُتَّاب والعلماء - معظمهم نساء- الذين نشأت مساهماتهم العامة من علاقاتهم الخاصة التي لا تقبل التصنيف وغالباً ما كانت محزنة، لتغيّر الطريقة التي بها نفهم الكون ونَخْبُره ونقدِّره، من هؤلاء ماريا متشل عالمة الفلك التي مهّدت للنساء طريق العلوم، وهارييت هوسمر النحَّاتة التي فعلت الشيء نفسه في الفن، ومارغرت فُلَر الصحفية والناقدة الأدبية التي أشعلت الحركة النسوية، والشاعرة إمِلي دِكنْسن.

*أسئلة كبرى
ومن هذه الحيوات تنبثق أسئلة أكبر عن معيار الحياة الجيدة وما الذي يعنيه أن يترك المرء أثراً إصلاحياً دائماً في عالم ناقص: هل يكفي الإنجاز والقبول لنيل السعادة؟ هل تكفي العبقرية؟ هل يكفي الحب؟ ويشهد هذا السرد البديع حضور مجموعة من الأسماء التي تبرز كشخصيات ثانوية في الكتاب، منها: رالف والدو إمرسن، تشارلز داروِن، إلزابث بارِت براوننغ، هرمَن ملڤل، فردرِك دوغلَس، ناثانيَل هوثورن، والت ويتمَن، ونسيج من الموضوعات يشمل الموسيقى، والنِّسوية، وتاريخ العلوم، والمعتقدات، وكيف حفَّز تقاطعُ علم الفلك والشعر والفلسفة حركة الحفاظ على البيئة، وغير ذلك من المواضيع الشائكة التي تطرح نفسها بقوة في عالم اليوم، ولعل الكاتبة عملت على تمرير الكثير من العوالم الثقيلة في الكتاب من خلال استصحاب تلك الشخصيات التي ما زالت تؤثر بقوة في واقع اليوم وتمتلك حضوراً ساحراً.
*رأسمال رمزي
الكتاب لا يخلو من التعقيد، كحال أي كتاب فلسفي الطابع، لكنه محتشد بالمعلومات والسرد الشيق عن مشاعر الحب وأهميته لدى العلماء والكتاب والعباقرة، ويطرح سؤالاً قوياً مفاده: هل يكفي أن يكون قلب الإنسان عامراً بالحب، ويمتلك الذكاء والعبقرية؟ ليكون فاعلاً في الوجود البشري، مفيداً للناس والمجتمعات؟ أم أن هناك أشياء وعوامل أخرى لها أهميتها كذلك؟ وما هو دور الظروف والصدفة في حياة الإنسان في مسيرته في الحياة؟ وبالفعل قد يبدو أن هنالك الكثير من الصعوبات في المقاربات التي أجرتها الكاتبة، لكنها محاولة في اتجاه أن يكون كل شيء قابلاً للتفكير فيه من أجل محاربة المسلمات والصور الذهنية النمطية، فصاحب القلب المحب، في بعض الأحيان، ربما يسعى إلى تكوين صورة جيدة عنه، بحيث تصبح تلك الطيبة رأسمال رمزي يستثمر فيه، ويبدو أن الكتاب يترك فجوات وفراغات ويتغاضى في الكثير من الأحيان عن وضع إجابات قاطعة، فتلك مهمة يقوم بها القارئ، وكذلك المستقبل.

*تعقيدات
ويناقش الكتاب بصورة مركزية مفهوم الحب والتعقيدات المتعلقة بالعلاقات بين البشر، بين المحبين، وهنا تبرز الكثير من القضايا والشجون، حيث يسافر الكتاب في رحلة توهج معرفي نحو أزمنة مضت، لتستجلي معاني الحب فيها، وكذلك تنقب عن مفهوم العشق في وقتنا الراهن من خلال التجوال في حيوات العديد من الشخصيات المرمزة؛ أي ذات الحضور والتأثير في حياة البشر بحيث أصبحت بمثابة مثل أعلى، و يعمل الكتاب على وضع كل مفهوم أمام التساؤل، وربما ذلك ما دفع المؤلفة للقول: لابد من خدش عَظم الحياة المتيّبس واستثارته لينطق ويفشى ما يخفي.

*نسويات
ولئن كان مفهوم الحب يسجل حضوراً مركزياً في الكتاب، فإن النسوية وقضايا المرأة لها النصيب الأوفر من النقاش والبذل الفكري، حيث تحاول المؤلفة أن تحقق انتصاراً للإنسان على ظروفه، وهي تركز هنا بشكل أساسي على كفاح المرأة، سواء أكانت الأم أو الزوجة أو غير ذلك، ويبرز هذا التناول لقضايا النساء ليعبر عن رحلة كفاح مضن وطويل ومحتشد بالأوجاع والتضحيات والنضال من أجل أن يكون للمرأة موطئ قدم في مختلف مناحي الحياة، في مجالات العلوم والتعليم والعمل، والانتصارات والإنجازات التي تحققت، حيث تشير الكاتبة إلى أن الحراك النسوي هو الكفاح الإنساني الحقيقي الجدير بالإشادة والالتفات إليه عبر إبراز قصص النساء الناجحات وحكاياتهن في الحياة.
الكتاب دعوة إلى فهم الحياة، عبر إعمال الفكر والتأمل، هو رغبة في التغيير كذلك بعد الفهم، وذلك يبدو جلياً من خلال المقدمة التي وضعتها المؤلفة والتي تقول فيها: «إن الحياة تُعاش بطرق متوازية وعمودية، وتُفهم بطريقة لا خطيّة، ولا يمكن تصورها بطريقة التخطيط البياني المباشر«.
*أسلوب
تكمن روعة الكتاب في الأسلوبية التي تجمع بين الجمال والفكر، حيث توظف المؤلفة لغة سردية شاعرية، حتى أن الظن ليتسرب إلى القارئ في أنه يطالع قصيدة أو نصاً روائياً، ومن خلال هذه الأسلوبية المبدعة تمرر الكاتبة رؤاها الفلسفية وتبني مفاهيمها الخاصة، حيث تعمل على إعادة تكوين وترتيب الأفكار، وتصنع علاقات جدلية بين مواضيع قد تبدو متنافرة لتنفذ إلى الروابط والعلاقات التي تجمع بينهم، كما تستخدم أساليب روائية وقصصية مثل تقنية «الفلاش باك» لتسافر نحو الماضي والعودة إلى الراهن بطريقة سلسلة، مع استشهاد بديع بالشعر والنثر لأدباء وشعراء من أزمنة مختلفة، لتشيد بذلك نصاً باذخ الجمال برافعة الفكرة.


*اقتباسات
«التاريخ ليس ما حدث؛ بل هو ما ينجو من حطام سفن الحكم والصدفة».
«إننا نلتقي بأشخاص لا ينتمون إلى فئة واحدة؛ بل إلى فئات متعددة في أوقات مختلفة».
«عندما نواجه شخصاً مفكراً ومبدعاً، فإن جاذبيته تربك البوصلة الخاصة بالإعجاب والانجذاب».
«ما هو الحب، بعد كل شيء، إن لم يكن قبولاً حنوناً للمحبوب بكل سخفه».
«لابد من تحمل أن نتحمل مسؤولية اختياراتنا الشخصية».
«لابد من التخلص من الفوضى، حتى نتمكن من الصعود نحو الحقيقة الأعلى».
«أولئك الذين يستفيدون من التلاعب بالحقيقة يضيعون التفكير النقدي».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2yh75u47

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"