د. صلاح الغول*
تواجه سوريّا تحولاً تاريخياً منذ سقوط نظام بشار الأسد، وفراره إلى روسيا في 8 ديسمبر (كانون الأول) الجاري. ومن العجب العجاب أنّ ذلك كله تم عقب تغيرات دراماتيكية سريعة في 12 يوماً فقط، بدأت بهجوم مباغت ومفاجئ للفصائل المسلحة، بقيادة «هيئة تحرير الشام»، في 27 نوفمبر (تشرين الثاني)، وسرعان ما سيطرت على كامل إدلب ومدينة حلب، ثاني أكبر المدن السورية، ثم دخلت حماة في 5 ديسمبر(كانون الأول)، وسيطرت على مدينة حمص بعدها بيومين فقط، وبالتزامن، سيطرت المعارضة المسلحة الجنوبية على درعا والسويداء والقنيطرة، ثم كان الحدث الأكبر، في 8 ديسمبر(كانون الأول)، بالسيطرة على دمشق، وإعلان التلفزيون السوري الرسمي «انتصار الثورة العظيمة وسقوط نظام الأسد والبعث».
ومع وصول قائد إدارة العمليات العسكرية للفصائل المسلحة، أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) إلى دمشق، وخطبته الشهيرة بالجامع الأموي، تدخل سوريا مرحلة جديدة مملوءة بالمخاطر والفرص، تتطلب قراءة معمقة للمشهد الحالي من أجل استشراف المستقبل.
إن انهيار نظام الأسد يعني أن عملية سياسية بين الفصائل المسلحة المتعددة قد بدأت. وبالنظر إلى أن لديها انتماءات أيديولوجية متنافرة وتوجهاتٍ إقليمية وسياسية متنافسة، فإن هذه العملية قد تؤدي إلى مزيد من الفصائلية، وربما المزيد من عدم الاستقرار، ومن ثم قد تشهد الفترة الانتقالية ما بعد سقوط النظام البعثي صراعاً سياسياً ومسلحاً بين فصائل المعارضة «المسلحة والمدنية» السورية جميعاً، وقد تنزلق البلاد إلى موجةٍ ثانية من الحرب الأهلية، على نحو ما يذكرنا بالسيناريو الليبي بُعَيْد انهيار نظام حكم القذافي عام 2011.
ولكن في الحالة السورية، وبسبب الطبيعة التعددية للتركيبة الدينية والعرقية، قد تأخذ أية موجة ثانية للحرب الأهلية صفة الشمولية «حرب الكل ضد الكل»، وتتحول إلى صراعٍ اجتماعي ممتد.
ومن ناحية أخرى، يجادل البعض بأنّ النتيجة الأكثر ترجيحاً لعملية الانتقال السياسي ما بعد الأسد هي تقسيم سوريا؛ لأنّ المرحلة الانتقالية تتسم بتعدد الفصائل المسلحة. والشاهد أنّ عدداً كبيراً من الجماعات ذات الهويات والأيديولوجيات المتنوعة، شارك في الهجوم الذي أفضى إلى الإطاحة بنظام الأسد، وتنخرط في أطرٍ تنظيمية فوقية، تضم العديد من التنظيمات المتنافرة أيديولوجياً وسياسياً، أهمها: قيادة العمليات المشتركة «الفتح المبين» بقيادة «هيئة تحرير الشام»، و«الجيش الوطني السوري»، وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وغرفة عمليات المنطقة الجنوبية، وعلى الرغم من أن هذه التنظيمات تعمل أسفل إطار واحد، فإن صراعات القوة والتنافسات الكبيرة قائمة بين الجماعات المنضوية تحتها. وفضلاً عن ذلك، فإنّ الفصائل المعارضة (المسلحة والمدنية) لها تفضيلاتها المختلفة بصفة أساسية عن بعضها البعض فيما يتصل بمستقبل الحُكم في سوريا.
وبالإضافة إلى احتمال أن يؤدي هذا الصراع المحتمل بين تشكيلات المعارضة المسلحة الرئيسية إلى تقسيم البلاد، فإن مشكلة الطائفة العلوية التي قادت البلاد لأكثر من 50 عاماً قد تفضي إلى انفصال الساحل السوري، معقل العلويين والنخبة السياسية والعسكرية السابقة، بدعم روسي، كما قد يستغل الأكراد الفراغ الناتج عن انسحاب القوات الحكومية وسيطرتهم على كامل محافظة دير الزور إلى الإعلان عن تشكيل دولة «كردية» في شمال وشرق سوريا.
وهناك مخاطر تتعلق بعودة الفوضى والاضطراب في المنطقة التي صاحبت اندلاع الانتفاضات الشعبية في أواخر عام 2010 وأوائل عام 2011، فيما عُرف بـ«الربيع العربي». وثمة احتمال بانتشار هذه الفوضى والاضطرابات مرةً أخرى إلى المحيط العربي؛ وهو ما حذر منه المستشار الدبلوماسي لرئيس الدولة الدكتور أنور قرقاش.
وهناك أيضاً مخاطر أن تصبح سوريّا ملاذاً للإرهاب، نظراً لمشاركة عدة فصائل مسلحة راديكالية، مصنف بعضها على قائمة الإرهاب الدولية، في الإطاحة بالنظام البعثي السابق، ونظراً لموقعها الذي يتوسط مناطق تنشط فيها التنظيمات الإرهابية مثل فصائل ما يُعرف بـ«المقاومة الإسلامية في العراق» وميليشيات الحشد الشعبي العراقية وتنظيم داعش في سوريا والعراق وحزب العمال الكردستاني وتنظيم القاعدة في المنطقة.
ويشكل خطر عودة ظهور تنظيم داعش أحد أبرز المخاطر، حيث فرض التنظيم في ذروته حكماً ترهيبياً في أجزاء واسعة من سوريا والعراق، ووفقاً لمسؤولين أمريكيين، فإن إدارة الرئيس جو بايدن تتابع التطورات عن كثب، لكنها لم تعدِّل مواقع نحو 900 جندي أمريكي ما زالوا موجودين في سوريا حتى الآن.
وفي حالة عودة داعش إلى النشاط أو تحول سوريا إلى ملاذٍ للإرهاب، سوف تؤجل أو تلغي الإدارة الأمريكية المقبلة بقيادة ترامب كل خططها المتعلقة بسحب قواتها من سوريّا، بل والانخراط في الصراع السوري مجدداً بدعوى مكافحة الإرهاب الدولي.
وأخيراً هناك مخاطر التدخلات الخارجية والطموحات الإقليمية لبعض القوى التي تسعى إلى تقويض استقرار سوريا، وفي مقدمتها إسرائيل وتركيا وإيران.
والخلاصة أن سوريّا ما بعد الأسد تواجه مخاطر عديدة ومتنوعة، تتراوح بين تجدد الصراع الأهلي والتقسيم مروراً بحالة من عدم الاستقرار السياسي قد تستمر لفترةٍ طويلة.
ومع ذلك فإنّ الأمل معقود بأن يستمر توافق الفصائل المسلحة والمعارضة المدنية، وأن تتضافر جهودها لعبور المرحلة الانتقالية بهدوء، ومن ثم التفاوض على شكل الحكومة ودستور الدولة، وتأسيس حكومة توافقية تتولى عملية المصالحة الوطنية وإعادة الإعمار.
[email protected]
*متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية