غياب الحوارات الأدبية، والمجادلات الفكرية، أثار شجون عدد من الكتاب الإماراتيين الذين تحدثوا ل«الخليج»، عن تلك الظواهر التي تكاد تنقرض في عصرنا الحالي، وتباينت آراؤهم في الموقف منها رغم تأكيدهم أهميتها في حيوية الحراك الثقافي العربي.
الشاعر كريم معتوق رسم مشهداً قاتماً عن الواقع الثقافي والأدبي العربي، عندما أشار إلى أن الساحة العربية الثقافية هي بمثابة جزر منعزلة وداخل الجزيرة الواحة «كونتونات»، متحاربة لا بسبب الاتجاه الفكري أو الأدبي، بل العكس تماماً، حيث إن الكثير ممن ليس لديهم علاقة بالإبداع قد ولجوا المجال الفكري والثقافي، وبالتالي فإن غياب التحاور بين المثقفين الحقيقيين يصبح أمراً طبيعياً.
وذكر معتوق أن في حال الحديث عن شخصيات مثل محمود درويش، فقد جمعته صداقات بين عدد من الشعراء والأدباء من الوزن الثقيل مثل إدوارد سعيد، وحدث بينهما تكامل فني، وكذلك بين آخرين أنتجت حواراتهم ورسائلهم أدباً وفكراً ومعرفة، وقد عرفت الساحة العربية الكثير من مثل تلك المراسلات التي حملت قيماً ورؤى جمالية.
وأشار معتوق إلى غياب المعارك الأدبية رغم العداء الظاهر بين الكثير ممن يتصدرون مشهد الأدب اليوم، وذلك لأن الاختلاف بينهم ليس فنياً ولا ثقافياً ولا علمياً، بل اختلاف شخصي، ما جعل كثيراً من الأدباء الحقيقيين يتوارون عن المشهد.
فردانية
القاص إبراهيم مبارك، تأسى على ماضي الثقافة العربية، حيث كانت الحيوية والنقاشات والحوارات والمعارك المبدعة تتسيد الموقف، ما أدى إلى تطور الفعل الثقافي، وارتفاع الذائقة الجمالية، واليوم غابت تلك الأشياء، وبرزت الفردانية، حيث صار كل كاتب يعمل ويسير وحده ولا شأن له بالآخرين ولا رغبة له في الحوار أو النقاش.
وذكر مبارك أن اللافت في السابق أن أي كاتب لا يقدم على إصدار عمل جديد إلا ويسبق ذلك عملية حوار ونقاش واسعة يجريها مع آخرين، بينما اختفت تلك الظاهرة اليوم وغاب النقد، وهذه العملية أنتجت أجيالاً من الكتاب بلا تجارب حقيقية، رغم كثرة المؤلفين، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي لا يتم التعامل معها بشكل جاد، رغم الإمكانات التي تزخر بها، بل إن من سلبياتها الكبيرة أن أغرت الجميع بالكتابة، وكانت النتيجة كتابات بلا مضمون.
فيما تؤكد الناقدة مريم الهاشمي أهمية الحوار الذي يعد من أهم المرتكزات الحضارية وله أهميته الكبيرة في دفع الحراك الفكري والثقافي إلى الأمام، فالحوار بمثابة ممارسة حياتية تضفي معنى للحياة، وبشكل أخص الحياة الثقافية والفكرية.
وأشارت مريم الهاشمي إلى أهمية المعارك الأدبية التي جرت في الماضي، حيث إنها قد دفعت الأدب إلى الأمام وطورته، حتى تعددت مذاهبه وتياراته، خاصة تلك التي جرت بين كبار الأدباء العرب مثل ما كان بين الرافعي وشوقي والعقاد، وكذلك الحواريات التي جرت بين الغذامي وأدونيس، وغير ذلك من نقاشات كانت ملهمة للكثيرين.
وذكرت أن الواقع الثقافي اليوم تعددت فيه وجوه النقاش لينتقل إلى المجال الإلكتروني الذي قد يخرج الحوار الحقيقي إلى حوارات عبثية زئبقية كما هو حال أغلب من يدخل العالم الافتراضي بما يشكّل نوعاً جديداً من التوجّه الأدبي الذي يحمل خطورة كبيرة، ومن الممكن أن يعيد تشكيل ذائقة مجتمعية جديدة مختلفة.
غياب
ولفتت مريم الهاشمي إلى عدد من أشكال الحوار مثل ذلك الذي يتم عن طريق اللقاءات والمنتديات والنقاشات الثقافية بين أروقة المؤسسات الثقافية ومعارض الكتب، إلا أن هذه الحوارات الأدبية لم تزل نوعية، وتتخذ طابعاً نخبوياً، بالتالي غابت الحيوية والألق القديم.
الروائية فتحية النمر، أوضحت أن الكتاب والأدباء في القرن العشرين كانوا أكثر نشاطاً وألفة من كتاب وأدباء الحاضر، رغم أن وسائل التواصل الاجتماعي في الماضي كانت محدودة للغاية وأبرزها الرسائل التي كانت بمثابة فن جميل وكان يشكل لوناً من ألوان الأدب المحترم الذي نفتقده اليوم.
وأشارت فتحية النمر إلى تلك الرسائل التي تبادلها الكتاب فيما بينهم مثل جبران خليل جبران ومي زيادة، حيث تباحثا فيها في شتى شؤون الحياة والأدب، رغم أن هذه الرسائل اتخذت الطابع الرومانسي، ومثلها رسائل غسان كنفاني وغادة السمان، وعدد من الكتاب الآخرين. وتشير النمر إلى أن كل تلك الإبداعات الأدبية والفكرية غابت في الوقت الراهن، رغم أن وسائل التواصل كثيرة ومنتشرة وبكل الأشكال وسهلة لكن كل كاتب يمثل جزيرة معزولة عن غيره، وعلى الرغم من كثرة الفعاليات والأنشطة الثقافية، والتي من المفترض أن تزيد اللحمة بين المشاركين وتقربهم إلى بعضهم البعض، ولكن المشاركة محدودة جداً أو حتى معدومة، والآن لا يوجد كتاب يتواصلون في ما بينهم عبر أي وسيلة، من أجل مناقشة الشؤون الأدبية والفكرية.
وقالت فتحية النمر: «يبدو أننا بحاجة إلى حماس من سبقونا من كتاب ومفكرين لخلق تواصل يخرجنا من شرنقة الفردية نحو نقاش قضايا عامة تخص الحياة والأدب».
عوالم مغلقة
الكاتبة والقاصة عائشة عبدالله، اتخذت وجهة مغايرة في حديثها، حيث أشارت إلى أن تلك الحوارات الجماعية بين الأدباء والفكرين لم تختف تماماً، فهناك نقاشات تجري حول قضايا أدبية عدة على مواقع التواصل الاجتماعي خاصة تطبيقات الرسائل الفورية مثل «واتساب»، لكن ما يعيب مثل هذه الحوارات أنها تجري في مجموعات مغلقة، فهناك مجموعة عن «القصة القصيرة»، وأخرى حول «الشعر»، وكذلك «الرواية»، وغير ذلك من أجناس أدبية، فهي مجموعات تأخذ الطابع التخصصي.
وأكدت عائشة أهمية أن تتبني المؤسسات الثقافية، كاتحاد الكتاب، مثل هذه النقاشات حتى تخرج من الدوائر المغلقة والنخبوية إلى الهواء الطلق والعلانية لتشرك فيها جمهور القراء والمثقفين، ما يعود بالنفع على الحراك الثقافي والأدبي والفكري.
وذكرت عائشة أن هنالك حوارات تجري بين المثقفين عبر تلك التطبيقات الإلكترونية لكنها، بطبيعة الحال، ليست بحيوية المراسلات التي جرت في السابق في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، ومن المهم أن تخرج مثل هذه الحوارات في شكل مؤلفات وإصدارات حتى يطلع عليها الجمهور وتفيد الفعل الثقافي.
