عادي

هل انتهى زمن الحوار بين المثقفين؟

23:18 مساء
قراءة 8 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود

إلى وقت قريب كانت الحوارات بين المثقفين من مفكرين وكتّاب وشعراء ونقاد هي التي تهيمن على الحراك الثقافي وتحرك بوصلته في اتجاه عالم حيوي لا يعرف الجمود، حيث اتخذت تلك الحوارات أشكالاً عدة منها ما عرف بأدب الرسائل بين مثقفين اثنين أو أكثر، وكذلك المؤلفات المشتركة، والمساجلات والمعارك الأدبية، وهناك أيضاً بيانات المثقفين، أو حتى المنتديات والمجالس، وكان نتاج ذلك الأمر تطور دائم يهيمن على الساحة الإبداعية والفكرية، فالاختلاف بين المثقفين كانت له فوائده الكثيرة لما يبذل فيه من أطروحات وأفكار ورؤى وإبداعات مختلفة.
لعل من الآثار المباشرة للحوارات بين المثقفين العرب في زمن مضى، إلى جانب الحيوية والتفاعل، أنها كانت تمد الأجيال الشابة بالتجارب والخبرات وتصنع حالة مستمرة من الإبداع المتواصل، ولعل معظم المنتج الإبداعي العربي في حقبة مضت من القرن الماضي يعود فيه الفضل لتلك الحوارات والمناقشات والمعارك، حيث كانت عبارة عن مدرسة ينهل منها الجميع، وكانت تعود بالفائدة على المتحاورين أنفسهم في مدّهم بأساليب وتقنيات جديدة، وهو الأمر الذي يميز تلك الفترة الزاهية من الأدب العربي بذلك التوهج واللمعان، وكانت المطابع لا تتوقف عن إصدار جديد حقيقي يحتشد بالجمال والفكرة، حيث كانت النقاشات والحوارات تتخذ أشكالاً عدة وتجري في أماكن وفضاءات متنوعة، على صفحات الصحف والمجلات، ووسائل الإعلام المتوفرة في ذلك الوقت، وكذلك في المجالس الخاصة والعامة والملتقيات والمقاهي، وذلك يشير إلى أن شأن الثقافة نفسه كان هاجساً يؤرق أهل الفكر والأدب.
أدب الرسائل
و من أهم المجالات الأدبية التي بُذل فيها الإبداع والألق وجماليات اللغة وصروح المجاز، ما عرف بأدب الرسائل، الذي كان منتشراً في تلك الحقبة من القرن الماضي بشدة، وهو امتداد لما كان سائداً في الغرب من مراسلات بين الأدباء ترجمت إلى اللغة العربية، فيما يرى كثيرون أن هذا النمط الإبداعي كان معروفا عند العرب منذ أمد طويل، ويشار إلى أن فن الرسائل عند العرب من الفنون الأدبية القديمة ازدهر في القرنين الثالث والرابع الهجريين، وانتشر صيته، وهو فن نثري جميل يظهر مقدرة الكاتب وموهبته الكتابية وروعة أساليبه البيانية القوية. ولما كانت الكتابة والقراءة أقل شيوعاً عند العرب في الجاهلية لم يكن لفن الرسائل دور في حياتهم الأدبية والاجتماعية في ذلك العصر، وهذا خلافاً للفنون الأخرى كالشعر والخطابة والأمثال التي كانت منتشرة، ومزدهرة، ومن أبرز ما ترك لنا التراث العربي والإسلامي رسائل إخوان الصفا، وكذلك رسائل ابن عربي، وقد استمر هذا الفن، كونه فنَّ تواصل بين اثنين أو بين كاتب وجماعة، في جميع العصور التاريخية حتى اليوم، وقد تطور هذا الشكل الإبداعي في القرن الماضي، بذات الكيفية التي عُرف بها في الغرب، بل إن الكثير من القرّاء قد حفظوا عن ظهر قلب مقاطع منها، وذلك لقيمتها الفنية والجمالية والفلسفية العالية، فمن منا لا يذكر تلك القطع الأدبية الجميلة التي كان يبعثها الرسام العبقري فان جوخ إلى شقيقه ثيو، والتي تضمنت أوجاعه وشكواه ومناجاته إلى أخيه والذي كان أحب الناس إليه، وكذلك بين الأديبين الروسيين الشهيرين مكسيم وأنطون تشيخوف، ومَن مِن القرّاء لا يذكر رسائل فرانز كافكا، التي كان يرسلها إلى حبيبته ميلينا، وهي سفر في أدب المناجاة وبث الشكوى، وكذلك رسائل فيودور دوستويفسكي، التي كان يبثها لزوجته المتوفاة، وقد عرف العالم العربي هذا النوع من الأدب عبر رسائل شهيرة كتلك التي جرت بين الأديبين جبران خليل جبران وميّ زيادة، وبين غسان كنفاني وغادة السمان، وبين محمود درويش وسميح القاسم، وكانت تحمل درراً على مستوى اللغة النثرية والأفكار والقضايا محل النقاش وعلى رأسها الأدب نفسه وشجونه وشؤونه، وقد تم جمع معظم هذه الرسائل في كتب وإصدارات ووجدت قبولاً كبيراً عن القراء، وفيها فرصة للتعرف إلى الكاتب عن قرب، كما أنها ملهمة للكتاب الجدد، فهم يستفيدون من ذلك الدفق الإبداعي وتلك التجارب في صياغة تجاربهم الخاصة، وذلك يشير إلى قوة «الأثر والتأثير»، في استمرار العملية الإبداعية مما يوضح تلك المكانة الكبيرة لأدب الرسائل الذي بات على وشك الانقراض في هذا العصر.
معارك
أسهمت المعارك الأدبية التي جرت بين العديد من الكتّاب والمفكرين العرب في القرن الماضي في صنع زخم وحالة أدبية متوهّجة، وكانت الحوارات والنقاشات المحتدمة بمثابة نهر متدفق بقوة يحمل الكثير من الرؤى والأفكار والمعارف، وعكست ذلك التعدد والتنوع الكبير في الحراك الثقافي العربي، خاصة أن تلك الصراعات التي نشبت بين أكثر من كاتب ومفكر، لم تكن، في الغالب، تحمل الطابع الشخصي، بل حول رؤى إبداعية، خاصة أن التيارات والمدارس والاتجاهات الأدبية قد انتشرت بقوة في الفترة منذ خمسينيات القرن الماضي، وتبنّاها الكثير من المبدعين العرب، ودافعوا عنها، وذلك يشير إلى أن تلك المعارك لم تكن من فراغ بل محاولة كل طرف الانتصار لما يعتنق من رؤى أدبية وفكرية، وذلك يوضح أن الاختلاف مسألة مهمة من أجل حيوية الساحة الثقافية، حيث أن كل أديب ومفكر يحشد طاقاته الإبداعية من أجل أن يتهيأ لتلك المبارزات عبر القراءة والاطّلاع المستمرين، مما يعني أن المعارف المتنوعة كانت هي النتيجة لتلك الحوارات التي اتخذت شكل المبارزات بين الكتاب والمفكرين التي اصطحبت الكثير من القضايا مثل الموقف من الأصالة والمعاصرة، والتراث والحداثة، وقد ألهم الجدل الخلّاق دائماً الأجيال الجديدة من المبدعين.
وقد جرت تلك المعارك الإبداعية في العالم العربي على ذات منوال ما حدث في الغرب من صراعات بين ممثلين لتيارات أدبية وفنية وفكرية مختلفة، حيث عرف الغرب ذلك الصراع العنيف بين تياري الكلاسيكية والرومانسية، وبين تلك الأخيرة والواقعية عند ظهورها وكان أن أنتجت تلك الأخيرة عدداً من التيارات مثل الواقعية الاشتراكية والسحرية، فكل تيار أدبي ينشأ يعمل بقوة على هدم قلاع الذي سبقه، وتقويض بناه الفكرية والجمالية التي نهض عليها من أجل تأسيس جديد، ولعل من أشهر تلك المعارك التي شهدها العالم العربي هي التي احتدمت منذ بداية القرن العشرين خاصة مع ازدهار الصحافة بأشكالها المختلفة ووجود مساحة عريضة من القراء والمتابعين، مما شجع ذلك كله حمّى الصراع الفكري والأدبي ومحاولة كل طرف تكريس ريادته وسلطته وهيمنة لقبه مثل: عميد الأدب العربي، عملاق الأدب والفكر، أمير البيان العربي، وغير ذلك من ألقاب وصفات، وكذلك حول الأدب نفسه وتبني تيار معين، أو رؤية جمالية، ومن أبرزها تلك التي جرت بين العقاد وأحمد شوقي، والواقع أن تلك المعركة جرت في معظمها من طرف واحد، وهو العقاد، الذي قدم خلالها الكثير من الرؤى النقدية حول شعر أحمد شوقي رغم اعترافه بمكانته، لكن في الأصل فإن الصراع كان موضوعياً وجرى حول الغاية من الشعر نفسه وقيمته، فالنص الشعري عند العقاد هو التعبير عن الحياة وعن الوجدان الإنساني، بينما عند شوقي هو مهارات لفظية ولغوية وبلاغية غايتها أن تبهر السامعين، وكان لتلك المجادلات والمحاورات أثرها الكبير لدى القراء في التعريف بالشعر وفلسفته، ولم تنحصر هذه المعركة على الطرفين فقط، فقد انتجت كذلك محاورات لعدد من النقاد الآخرين حول ذات الموضوع ليصطف كل فريق حول هذا الأديب أو ذاك.
وذلك أيضاً ما جرى في تلك المعركة التي نشبت بين الدكتور زكي مبارك والدكتور طه حسين، إذ تعتبر تلك المبارزات الحوارية التي جرت بينهما هي الأكبر في تاريخ الأدب العربي المعاصر، ويقال إنها قد امتدت طوال الفترة من عام 1931، وحتى عام 1940، حيث بدأت مع إصدار زكي لكتابه «النثر الفني في القرن الرابع الهجري»، وتضمن الكثير من الانتقاد لطه حسين، وكانت تلك بداية شرارة المعركة التي أريقت على جوانبها الكثير من الرؤى والأطروحات الأدبية والفكرية الرفيعة، ورغم الجوانب الشخصية فقد كان للصراع جذوره الفكرية الموضوعية، فقد كان طه حسين يؤكد أن العقل اليوناني هو مصدر التحضر وأن عقلية مصر هي عقلية يونانية ولا بد لمصر أن تعود إلى احتضان ثقافة وفلسفة اليونان، في حين كان زكي مبارك ضد هذه النزعة اليونانية واتهم طه حسين بنقل واتباع آراء المستشرقين والأجانب، وكذلك تصارعا حول النثر الفني، فهو عند زكي مبارك يمتد إلى ما قبل الإسلام، على عكس طه حسين الذي دافع عن الرأي القائل إن النثر الفني فنٌّ اكتسبه العرب بعد الإسلام ولم يُعرَفْ إلا في أواخر العصر الأموي، وكذلك جرت مبارزات من هذا النوع بين محمود شاكر وعدد من الأدباء على رأسهم لويس عوض، وبين الرافعي والعقاد، وكذلك بين سلامة موسى والعقاد، وكذلك وقف كل من عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم ضد طه حسين في معركة اتخذت طابعاً أيديولوجيا، وقد اكتسبت الحوارات الناتجة عن تلك المعارك أهمية قصوى لما فيها تصورات وآراء.
مبارزات
كان للمحاورات والمبارزات الفكرية التي نشبت خلال القرن الماضي وحتى الحالي بين مفكرين وكتاب وباحثين عرب، الكثير من الفوائد المعرفية، خاصة تلك التي دارت حول الموقف من العقل العربي والتراث، وتحضر هنا الكثير من الأسماء، وتبرز العديد من المجادلات المعرفية القيمة، ربما على رأسها تلك التي تفجرت بين محمد عابد الجابري وعدد من المفكرين على رأسهم جورج طرابيشي، حيث جرت بينهما الكثير من المجادلات حول «العقل العربي»، وكان طرابيشي يعتبر الجابري بمثابة الأستاذ والمعلم بالنسبة له، لذلك كتب بعد وفاة الجابري: «كانت جريمة قتل الأب المؤمثل من طبيعة مغايرة. فقد شاءت الصدفة والصدفة وحدها أن أكتشف أن هذا الأخ، الذي أردته بكل وعيي أخاً كبيراً، لن يستطيع أن يقوم مقام الأب المؤمثل. لا لأنه في مثل سنّي، بل لخلاف معه حول طبيعة الفردوس الذي أدخلني إليه: الأبستمولوجيا. ففي الوقت الذي أدين له بقسط كبير من تحولي من الإيديولوجيا إلى الإبستمولوجيا، اكتشفت على حين غرة أن ممارسته للإبستمولوجيا بالذات هي إيديولوجيا، أو محكومة على الأقل باعتبارات إيديولوجية»، مما يشير إلى أن المعركة بين الاثنين والحوارات الناتجة عنها قد اتخذت طابعاً أيديولوجياً حول طبيعة العقل العربي، وكذلك جرت محاورات لم تخل من العنف بين حسن حنفي والجابري أو ما عرف ب«حوار الشرق والغرب»، وقد اتسم ذلك النقاش بالثراء الفكري والعمق في التناول، ومن أبرز تلك المحاورات المضنية كذلك، تلك التي جرت بين بين المفكرين المغربين طه عبد الرحمن وعبد الله العروي، فقد انطلق كل واحد منهما من موقع فكري ومنهجي مختلف عن الآخر، وخاضا معارك حول عدد من القضايا الفكرية العربية، والواقع أن التاريخ العربي عرف كثيراً من مثل هذه المعارك التي رغم احتدامها تبدو طبيعية نسبة لأن أي كاتب أو مفكر يحاول الدفاع عن الآراء التي يتبنّاها، من أجل أن يؤسس لموقفه الخاص وهو ما يجعله يصدم بالآخرين فتدور تلك المبارزات والحواريات التي تنتج الكثير من الأفكار، فعلى الرغم من الطابع الشخصي في بعض الأحيان والذي قد يصل إلى مرحلة إلغاء الآخر، إلا أن التاريخ يحفظ مثل تلك النقاشات حيث تبقى قيمتها الفكرية والأدبية، والتي هي دليل على حيوية الثقافة نفسها، وقد أنتجت تلك التفاعلات كذلك مؤلفات وإصدارات مشتركة كانت في معظمها حول موقف من قضية فكرية ما، أو ردٍّ على كاتب أو اتجاه فكري.
بيانات
كما عرف القرن العشرين كذلك، أشكالاً جديدة من الأنماط الأدبية القائمة على الحواريات والنقاشات، ومنها البينات الأدبية والفكرية، وهي التي يلجأ إليها مجموعة من الكتاب للإعلان عن تبنّيهم تيار أدبي أو فكري جديد، وكذلك في حال اتخاذ موقف فكري أو سياسي حيال قضية معينة تتطلب موقف المثقفين في أي بلد عربي، وكذلك هناك البيانات التي تكتب بواسطة كل المثقفين العرب حول قضايا الأمة المختلفة، وهو أيضاً من الأشكال الأدبية والفكرية التي تجرى فيها وحولها الكثير من النقاشات والحوارات التي تثري سوح الفكر والثقافة.
عصر الرقمنة
تكاد المحاورات بين المثقفين، والمعارك النقاشية والمجادلات بين المفكرين أن تنقضي وتزول في هذا العصر، وهنا تكمن مفارقة كبرى، إذ يتميز وقتنا الراهن بانفجار كبير في وسائل الاتصال، وظهور مواقع التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الرسائل الفورية، وكلها أدوات تتيح مساحة أكبر للفعل الثقافي، ورغم ذلك فهي لا تشجع الكتاب والمفكرين على تبادل الحوارات والرسائل وحتى المعارك، وربما يعود ذلك لطبيعة العصر نفسه، ففي السابق تعددت التيارات والمذاهب الفكرية والأيديولوجية والسياسية، بينما يعيش الإنسان في الوقت الراهن، خاصة المبدع، عصر أحادي حيث تكاد تسود رؤى معينة يعبر عنها فكرياً وسياسياً النظام العالمي الجديد، وبات الفرد مشغولاً بقضاياه وشؤونه الخاصة لاهثاً خلف لقمة عيشه، كما أن البعض يرى أن الأدوات الجديدة تتخذ طابعاً ترفيهياً في عالم غابت عنه الجدية.

https://tinyurl.com/4rtf5v99

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"