د. باسمة يونس
كانت المعارك الأدبية وأدب الرسائل والكتب الحوارية تمثل ركائز أساسية للحراك الثقافي عبر العصور، وكانت في معظمها تقوم على أساس مهاجمة الأفكار البالية، وهو ما جعلها تستحوذ على المنابر الثقافية وتلقى تقدير الأدباء والمثقفين.
وقد أسهمت هذه المعارك في تشكيل الفكر والأدب عبر الأزمان، باعتبارها من أهم الأشكال الأدبية والفكرية التي تحفز التفاعل بين الكتاب والمثقفين، وتُسهم في نشر ما يطرح بينهم من قضايا فكرية جوهرية أو مقالات للنقاش العام تستقطب أعداداً كبيرة للحوار حولها.
وبرغم ما قيل عن افتعال بعض الأدباء معاركهم الأدبية عندما يخفت بريق حضورهم الثقافي ويسعون للعودة إلى الواجهة، فإنها كانت من أهم وسائل تحفيز الفكر وإعادة صياغة المفاهيم الأدبية وتحفيز الحوار الثقافي المتزن.
ومع أن هناك من يؤكد على أن المعارك الأدبية وأدب الرسائل لم يعد لها مكان في العصر الحديث، وأصبح تراجعها أمام التحولات التقنية والتغييرات الحاصلة في وسائل التواصل الاجتماعي أمراً حتمياً، لكنها لا تزال موجودة وإن تغيرت طبيعتها.
وفي الواقع، لم تختفِ المعارك ولا الرسائل الأدبية ولم تندثر، بل انتقلت من نقاشات وصفحات مطولة كانت تستغرق أشهراً، وأحياناً سنوات طويلة، لتصبح تغريدات قصيرة، أو منشورات لفترات لا تتعدى الدقائق أحياناً، أو برامج حوارية تركز على الترفيه أكثر من التثقيف.
وربما تكون من أهم أسباب هذا التغيير، سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي، وحلولها محلّ الصحف والمجلات الثقافية التي كانت أهم منابر المعارك الأدبية وساحاتها الممتدة للتواصل بين أطراف النقاش والمناظرات الجدلية، لتتغير بالمقابل طبيعة الصراعات الفكرية، وتتحول من التفاعل مع القضايا الفلسفية والفكرية الكبرى، إلى صراعات شخصية ومنافسات تسويقية، بعيدة تماماً عن القضايا الثقافية الجوهرية.
وأصبحت المعارك نفسها تفتقر إلى العمق والاتساق الذي كان يميزها في الماضي، مع ميل الجيل الحديث إلى السرعة والاختصار، وتراجع شعبية الحوارات الطويلة التي تتطلب جهداً وصبراً وتفرغاً لزمن طويل، ومع تبدل اهتمامات بعض المؤسسات الثقافية التي أصبحت تركز في الأغلب على إقامة الفعاليات الجماهيرية والترفيهية، مقابل القليل وأحياناً النادر من المشاريع الفكرية الكبرى، التي تستدعي الحوارات الجادة بين المثقفين، وتشعل حوارات مستمرة قد تدوم لفترات طويلة.
ومع ذلك، يمكن القول بأن الحوار الثقافي لم يختفِ تماماً، والنقاشات التي كانت تدار على صفحات الصحف والمجلات وبين المثقفين ورغم انتقالها إلى وسائل التواصل الاجتماعي لم تندثر، بل تغيّر شكلها وتأثر محتواها، فأصبحت أكثر سطحية وأقل عمقاً وتأثيراً، وبات من الصعب المحافظة على مستوى العمق والاتزان فيها، ما لم تُهيّأْ لها بيئات وممارسات جديدة تُعيد لها حيويتها، وتخرجها من أزمة الضحالة التي تعانيها.
وبهدف استعادة الحوار الثقافي، علينا تغيير طريقة استخدام الوسائل الرقمية واستثمارها في نشر النقاشات والرسائل الأدبية، وتنظيم معارك فكرية عبر المنتديات الثقافية الرقمية، على أن تكون مبنية على التحليل والنقد البناء، ودعم إنشاء مجلات ومواقع رقمية تهتم بنشر نقاشات طويلة ومعمقة، وتشجيع الكتاب على إنتاج كتب تتضمّن حوارات فكرية وأدبية حول قضايا العصر، تجمع المثقفين والجماهير، وتتيح الفرص لنقاش عميق بينهم حول القضايا الثقافية المعاصرة.
كما يمكن أن تقوم المؤسسات الثقافية بتبنّي مبادرات لتحفيز الحوار الفكري، مثل مشاريع إطلاق الجوائز والمهرجانات والفعاليات التي تجمع المثقفين والأدباء، وتفتح أبواب حوارات ثقافية لها القدرة على تحليل القضايا المعاصرة، وسبر أغوارها العميقة.