مظلة الثقافة العربية

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

تحدّث المفكر المغربي الراحل محمد عابد الجابري يوماً عن ظاهرة انفصال الأزمنة الثقافية العربية، بمعنى أن هناك فجوة في التحديث بين بلدان العالم العربي، وربما داخل البلد الواحد، وأشار آخرون إلى الظاهرة نفسها ولكن من جانب مختلف. فنحن كعرب نعيش مختلف الأزمنة في الوقت نفسه، وهو ما دفع البعض إلى القول بأن ثقافتنا لا تعرف الزمن الخطي التصاعدي، وتاريخنا بأكمله عبارة عن دوائر تكرارية، فالأحداث تعيد نفسها.
إذن هناك فهم خاص للزمن في الثقافة العربية، ربما تأثر في الأساس، بالتشكيلات الاجتماعية، فعندما ننظر إلى خريطة المجتمعات العربية سنجد تكوينات متعددة متجاورة، وتجمعات مدنية وريفية وحضارية، بعضها يبدو أنه ينتمي في الظاهر إلى الماضي، ولكنه لا يزال موجوداً بتقاليده القديمة، وهناك تكوينات حديثة، يبدو من الظاهر أيضاً أنها قطعت مع الماضي، ولكنه يسكن في وجدانها، ويؤثر في سلوكياتها، أي أن تلك التكوينات بطبيعتها تتجاور فيها لحظات الزمن الثلاث الماضي والحاضر والمستقبل، وكثيراً ما تنصهر هذه اللحظات معاً في الوقت نفسه، لتشكل مزيجاً فريداً وقف أمامه طويلاً الكثير من الباحثين في حيرة واندهاش.
انعكس هذا الشكل الاجتماعي في الفكر الناتج عنه، فوجدنا مختلف التيارات الفكرية متجاورة، فهناك داعية الأصالة، ومن يبشر بالحداثة، ومن يتوسط بينهما، ولكل منهم عالمه، وأدواته ومناهجه، وأيضاً عصره الذي يعيش فيه، ويبشر بقيمه. ومن يرفض التجديد ويتمسك بالجمود، ومن يتكلم عن أحدث الأفكار ولو كانت مجنونة أو بالغة الغرابة، وهذه المواقف الفكرية طبعت ثقافتنا منذ أكثر من قرن، بمعنى أننا لا نستطيع الاختيار بين تلك التيارات الفكرية أو الحسم حتى بين أية فكرتين، ربما لأن القوى الاجتماعية الحاملة لهذه الأفكار والسابق الإشارة إليها لا تزال كما هي لم تتغير.
ولم يتوقف الأمر عند الفكر النظري بل وصل إلى المنتج الثقافي للمجتمعات العربية، ومع وجود من يتحدث عن مسرح ما بعد الحداثة لن نجد صعوبة في العثور عمن يتكلم عن خيال الظل، ومن يتمسك باللغة العربية وقواعدها التليدة، ومن يتطلع إلى لغات أخرى تناسب سوق العمل والتكنولوجيا، وهناك من يكتب قصيدة النثر، ومن يؤلف الشعر وفق العمود الخليلي الكلاسيكي، ومن يبدع في الرواية، ومن لا يزال يُنظّر ويبحث في المقامة، وهناك من ينخرط في العصر بتقنياته الفائقة الحداثة، ومن يعيش منعزلاً في ماضيه بعيداً عن الأحداث. وهنا أيضاً لا نستطيع الحسم أو الاختيار، وظل جميع هؤلاء يعيشون بجوار بعضهم على مدار عقود، وهو وضْعٌ مميز جداً، وربما لا يوجد له مثيل في العالم كله.
يمكن بسهولة وصف الصورة السابقة بالفوضى، أو التفاوت الزمني، أو التطور اللامتكافئ، وأن ثقافتنا في حاجة ماسة إلى الاتساق، ولكن يمكن قراءتها وفق رؤية مغايرة تتجاوز السلبيات، فتلك الثقافة أشبه بمظلة واسعة تتسع للجميع لا تقصي أحداً على حساب الآخر، ولا تصادر فكرة من أجل فكرة ثانية، ونحن فقط من نستطيع الاختيار من خلال ممارساتنا التي تنتصر لإحدى الرؤيتين.

https://tinyurl.com/5ynn9rhh

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"