رؤية مختلفة للآخرين

00:02 صباحا
قراءة دقيقتين

في تاريخ العلاقات بين أوروبا والعالم العربي والإسلامي الكثير من المحطات التي لم يتطرق إليها الباحثون كثيراً، منها مثلاً ما نقرؤه في كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ، الذي عاش في القرن السادس الهجري في ذروة وجود ما عرف بالحملات الصليبية وتكويناتها السياسية في بلاد الشام. حارب أسامة الصليبيين، وندهش عندما نقرأ أنه أعجب بشجاعة بعض فرسانهم، وتعامل مع الكثيرين منهم، وميّز بين نوعين، الصليبي الجلف الذي جاء تواً من أوروبا، والصليبي الذي أمضى فترة في الشرق فتحضر وتخلص من قيم وسلوكيات رآها العرب والمسلمون آنذاك متخلفة.
يثير رأي ابن منقذ أكثر من زاوية للتفكير، فأولاً نحن نلمح الموضوعية التي تميز بها، ففي التاريخ يندر أن يتحدث أحدهم عن إيجابيات العدو، الشجاعة، وهي نزعة موضوعية اتسم بها المؤرخ العربي المسلم، ونجدها في الكثير من المدونات والمؤلفات التاريخية، ولعلها واضحة جداً لدى مؤرخ آخر سيأتي بعده بقرون، ونعني عبد الرحمن الجبرتي، ولكن يتميز ابن منقذ بأنه حارب بنفسه، وكانت حضارته آنذاك متفوقة، أي امتلك كل العوامل التي تجعله ينظر لهؤلاء الأعداء بفوقية وبوصفهم آخرين لا بد من تشويه صورتهم، كما تعودنا في مثل هذه المواقف.
زاوية أخرى للنظر تثيرها لحظة ابن منقذ وتتمثل في هؤلاء الأعداء، الذين إن تفوقوا عسكرياً فإنهم أقل في مضمار الحضارة، بل إنهم اكتسبوا قيماً وسلوكيات نتيجة لاحتكاكهم بالمغلوبين، وذلك بعكس فكرة أخرى مضادة سيرسخها فيما بعد ابن خلدون من خلال تأكيد أن المغلوب مولع بتقليد الغالب، وستمتد هذه الفكرة إلى عصرنا الراهن وستتحول إلى فرضية لا تقبل النقاش، وسيتم استخدامها وتوظيفها في حقول معرفية عدة: علم الاجتماع، والفكر التنظيري، والعلاقات بين الحضارات والشعوب.
في كلام ابن منقذ أيضاً تأكيد من نوع ما أنه لا يوجد شيء في الإمكان تعلّمه من هؤلاء الغزاة، وهو نفس التوجه الذي سنراه فيما بعد مع أشهر رحالة في العالم، ابن بطوطة، والذي لم يتوغل في أوروبا، حيث لم يكن بها آنذاك ما يدعو إلى الاكتشاف أو المعرفة والتعلم.
في تاريخ تلك العلاقات التي سبقت الإشارة إليها نتيجة مهمة جداً، تتمثل في أن العربي المسلم عندما كان متفوقاً في مضمار الحضارة لم ينظر إلى الأوروبيين أو غيرهم بوصفهم آخرين لا بد من تشويههم والتعامل معهم من علٍ ودراسة كل ما يمت إليهم بصلة من أجل تشريحهم بمختلف مباضع المعرفة وأدواتها لترسيخ صور ذهنية معينة، وهو ما حدث مع أوروبا عندما تسابق العديد من المغامرين والمستعمرين والمستشرقين لدراسة الشرق من مئات الزوايا والاتجاهات، أما عندما تراجعت الحضارة العربية الإسلامية فإن نخبة المنورين والمثقفين دعت إلى التعلم من الآخرين، من أجل اكتساب الخبرات وتحقيق التقدم.
إن قراءة أخرى لتاريخ تلك العلاقات تؤكد أن العربي المسلم تعامل مع العالم بأريحية وانفتاح ومن دون تشنج أو كراهية، وذلك هو الدرس الأبقى الذي علينا استيعابه ودراسة مفاصل قوته من أجل المستقبل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdf68ava

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"