أيمن سمير
تعيش ألمانيا حالة من الجمود السياسي انتظاراً لكلمة الناخبين في الانتخابات المبكرة التي سوف تجرى في 23 فبراير المقبل بعد سحب البرلمان في 6 نوفمبر الماضي الثقة من ائتلاف المستشار أولاف شولتز الذي كان يضم ثلاثة أحزاب هي الاشتراكي الاجتماعي بزعامة شولتز، وحزب الخضر الذي تنتمي إليه وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك، والحزب الليبرالي الحر الذي كان يمثله في الحكومة وزير المالية كريستيان ليندنر الذي تسبب الخلاف بينه وبين المستشار الألماني حول الميزانية في انهيار الحكومة الائتلافية، وهو تحالف تأسس في الأول من ديسمبر 2021 تحت شعار «ائتلاف يجرؤ على تحقيق المزيد من التقدم بألوانه الثلاثة»، الأحمر والأصفر والأخضر، ولهذا كان يسمى بتحالف «إشارة المرور»، لكنه لم يصمد حتى نهاية ولاية الحكومة في سبتمبر القادم بسبب الخلافات الإيديولوجية حيث تقوم عقيدة حزبي الاشتراكي الاجتماعي والخضر على مزيد من الإنفاق والتحول نحو السياسات الخضراء، بينما تعتمد فلسفة الحزب الديمقراطي الحر على تقييد الإنفاق وكبح الديون، ولهذا كان اختلاف الطرفين حول الميزانية بمثابة القشة التي أدت لانهيار الائتلاف في ظل ظروف شديدة التعقيد لألمانيا الاتحادية حيث تعاني برلين ضعف النمو الاقتصادي، وتراجع معدل السكان، وعدم ثقة بمستقبل العلاقات الأمريكية الألمانية مع وصول دونالد ترامب للبيت الأبيض في 20 يناير الجاري.

يحيط بالانتخابات القادمة سلسلة من المفارقات في مقدمتها أنه لأول مرة منذ عام 1987 تجرى الانتخابات في الشتاء القارس حيث كانت الانتخابات تتم عادة في شهر سبتمبر قبل سقوط الجليد، كما أنها الانتخابات الأولى منذ عام 1949 التي يترشح فيها 5 مستشارين لمنصب المستشار، وخلال 20 برلماناً سابقاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كان يترشح مرشحان أو ثلاثة على الأكثر لمنصب المستشار، وهو ما يجعلها الانتخابات الأصعب في تاريخ ألمانيا، ولا تتوقف الصعوبة عند الفترة التي تسبق الانتخابات، بل هناك مخاوف من طول الفترة التي يمكن أن تستغرقها الأحزاب لتشكيل «الائتلاف القادم»، ففي الوقت الذي يأمل البعض في تشكيل الحكومة الجديدة قبل إبريل القادم فإن تراجع الأحزاب التقليدية التي لعبت دوراً كبيراً في تاريخ ألمانيا مثل الحزب الاشتراكي الاجتماعي، وصعود اليمين المتطرف ممثلاً في «حزب البديل من أجل ألمانيا» يمكن أن يقود إلى إطالة فترة المفاوضات من أجل تشكيل ائتلاف حاكم جديد، ويخشى الكثيرون أن تقود الضبابية السياسية الحالية إلى حالة طويلة من عدم الثقة حول تشكيل الحكومة القادمة كما جرى قبل تولى المستشارة السابقة أنجيلا ميركل ولايتها الرابعة حيث استمرت المفاوضات بين الأحزاب 171 يوماً.

وسوف تكون الانتخابات القادمة هي رابع انتخابات مبكرة في تاريخ ألمانيا المعاصر حيث جرت 3 انتخابات مبكرة من قبل في 1971,1983، و2005، ورغم اتخاذ «ائتلاف إشارة المرور» قرارات جريئة بعد نشوب الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير 2022 مثل تخصيص 100 مليار يورو لتحديث الجيش الألماني إلا أن الضغوط السياسية والاقتصادية على الائتلاف الحاكم عجلت بانهياره، فما هي السيناريوهات التي تنتظر تشكيل الحكومة الألمانية الجديدة؟ وهل يمكن أن يعود التحالف من جديد بين الحزبين الكبيرين، الاتحادي الديمقراطي المسيحي، والاشتراكي الاجتماعي، من أجل قطع الطريق على الأحزاب المتطرفة؟ وهل يمكن أن تدخل ألمانيا دوامة عدم الاستقرار السياسي الذي تعانيه الحكومات الفرنسية الحالية؟
4 مرتكزات
طوال نحو 5 عقود من الزمان ارتكز الرخاء والازدهار في ألمانيا على 4 مرتكزات رئيسية هي:
1 - الغاز الروسي الرخيص
كان الغاز الروسي يصل إلى ألمانيا عبر خطوط الغاز وهي أقل تكلفة من الغاز المنقول بحراً عبر السفن، وكان الغاز يصل لألمانيا ودول وسط أوروبا من حقول سيبيريا الروسية خاصة خط «نورد ستريم الأول» الذي كان ينقل لألمانيا وأوروبا نحو 55 مليار متر مكعب من الغاز، وكانت تتوقع ألمانيا 55 مليار متر مكعب أخرى عقب اكتمال خط «نورد ستريم الثاني» في نهاية 2021، وهذان الخطان تم تفجيرهما في سبتمبر 2022، ولهذا دفعت برلين أموالاً طائلة لشراء الغاز المسال، الأمر الذي ساهم في ارتفاع التضخم، وزيادة تكاليف الصناعات الألمانية، وهو ما قاد في النهاية إلى ضعف النمو الصناعي، وتراجع الصادرات.
2 -«نهاية الاعتمادية الأمنية»
الركيزة الثانية للاستقرار الألماني كانت عبر «الاعتمادية الأمنية» على واشنطن عبر نحو 50 ألف جندي أمريكي ينتشرون في 38 قاعدة عسكرية في البلاد. لكن الحرب الروسية الأوكرانية، ورغبة واشنطن أن يشاركها حلفاؤها الأوروبيون تكلفة الدفاع عن أوروبا دفعت حكومة «إشارة المرور» المنتهية ولايتها إلى إنفاق مليارات الدولارات على تعزيز قدرات الجيش الألماني، فبجانب تخصيص نحو 100 مليار لتحديث الجيش زادت الميزانية العسكرية لنحو 50 مليار يورو سنوياً، بالإضافة إلى الأموال التي خصصتها برلين لمبادرة المستشار الألماني «درع السماء» لحماية الأجواء الأوروبية عبر 3 طبقات من الدفاعات الجوية القصيرة والمتوسطة والبعيدة، وبينما كانت ألمانيا في السابق تعتمد اعتماداً كاملاً على القوات الأمريكية بات عليها اليوم أن تشارك، ليس فقط في تأمين الأراضي الألمانية بل كل أراضي الاتحاد الأوروبي وحلف دول شمال الأطلسي «الناتو».
3 - السوق الصينية
ظلت الصين لسنوات طويلة الشريك التجاري الأكبر لألمانيا حيث بلغت التجارة البينية بين برلين وبكين نحو 299 مليار دولار عام 2022، لكن الأهم بالنسبة لألمانيا هو أن الصين أكبر سوق يستقبل البضائع الألمانية التي وصلت قيمتها إلى نحو 110 مليارات دولار العام الماضي، وتستفيد ألمانيا من الاستثمارات الضخمة في الاقتصاد الصيني، وهناك أكثر من شركة سيارات ألمانية تأتي نصف إيراداتها من الصين، لكن بعد نشوب الحرب الروسية الأوكرانية زادت الضغوط الغربية والأمريكية على برلين لتقليل حجم علاقاتها الاقتصادية مع الصين، وتعتقد واشنطن أن الاعتماد الأوروبي الاقتصادي على الصين يتشابه مع اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، ولهذا تحاول ألمانيا التوازن بين مصالحها التجارية والاقتصادية مع الصين، والضغوط الأمريكية الهائلة لتخفيف الاعتماد الألماني على السوق الصينية.
4 - العلاقات الأمريكية الألمانية
شكلت خصوصية العلاقات الألمانية الأمريكية الرافعة السياسية والاقتصادية لكل الحكومات الألمانية السابقة، لكن مع عودة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب ينتظر علاقات برلين وواشنطن «امتحان خاص» نظراً للعلاقة التي كانت متوترة بين ترامب والمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، وسعي ترامب عام 2019 لنقل 9500 جندي أمريكي من ألمانيا لدول الجناح الشرقي من حلف «الناتو»، وسوف تواجه الحكومة الألمانية القادمة طلب الرئيس ترامب من الدول الأعضاء في حلف «الناتو» إنفاق 5% من الناتج القومي على الشؤون الدفاعية.
تحديات على الطاولة
أسباب كثيرة وعميقة أدت للخلافات التي عصفت بالائتلاف الحاكم، والذهاب للانتخابات المبكرة، لكن لا يتوقع أحد أن تنتفي أو تنتهي هذه الأسباب بعد إجراء الانتخابات المبكرة حيث تواجه ألمانيا سلسلة من التحديات هي:
أولاً: التطرف والإرهاب
تعتقد نانسي فيزر وزيرة الداخلية الألمانية أن بلادها باتت مستهدفة من جانب التنظيمات الإرهابية، خاصة تنظيم داعش، وحذرت أكثر من وثيقة أصدرتها المخابرات الداخلية «المكتب الاتحادي لحماية الدستور» من تحول ألمانيا إلى مركز للعمليات الإرهابية في أوروبا، وكان حادث ماجدبورج ليلة رأس السنة إنذاراً قوياً بخطورة التنظيمات الإرهابية على الأراضي الألمانية، ولهذا كان جزء من الاستياء الشعبي الألماني خلال الفترة الماضية يأتي من الشعور بعدم الصرامة والحسم من جانب الحكومة في مواجهة التنظيمات المتطرفة.
ثانياً: الهجرة
تشكل الهجرة أحد أبرز التحديات التي تواجه ألمانيا، فصعود الأحزاب اليمينية خاصة حزب البديل من أجل ألمانيا وتآكل القاعدة السياسية لأحزاب الوسط كان نتيجة مباشرة لمشكلات تتعلق بالمهاجرين، ورغم أن الحكومة الحالية قامت بإجراءات غير مسبوقة مثل إغلاق الحدود البرية مع دول مثل النمسا وفرنسا وإيطاليا إلا أن شعبية الأحزاب الثلاثة التي شكلت حكومة «إشارة مرور» تدهورت بشكل حاد خلال الفترة الماضية حيث نظر الناخب الألماني إلى الأحزاب الحاكمة باعتبارها متساهلة في قضية الهجرة.
4 سيناريوهات
وفق غالبية استطلاعات الرأي، وبعد تقليص عدد مقاعد البرلمان من 733 إلى 640 مقعداً فقط، فإن «الاتحادي الديمقراطي» الذي يضم الحزب المسيحي الديمقراطي، وشقيقه الأصغر الحزب المسيحي الاجتماعي «البافاري» سوف يحصلان معاً على نحو 33% من الأصوات، ويأتي في المرتبة الثانية الحزب اليميني «البديل من أجل ألمانيا» المناهض للهجرة، الذي حصل في الاستطلاعات على 20% من نوايا التصويت، ويحل حزب المستشار أولاف شولتز «الاشتراكي الاجتماعي» في المرتبة الثالثة بنحو 14%، ويأتي خلفه حزب الخضر ب10% فقط، وتحالف فاجنكنشت على 7%، والحزب الليبرالي الحر على 5%.
ووفق هذه النسب فإنه يستحيل على أي حزب تشكيل حكومة بمفرده، ويحتاج إلى التحالف مع حزب أو حزبين على الأقل رغم أن الشارع الألماني أبدى امتعاضه ورفضه للائتلافات الحزبية، التي أدت لخلافات كبيرة، وتراجع صورة ألمانيا على المستويين الأوروبي والدولي، وقال 50% إنهم ضد أي تحالف بين الاتحادي الديمقراطي بقيادة فريدريش ميرتس، والاشتراكي الاجتماعي بقيادة أولاف شولتز، ويعارض 74% انضمام الحزب الليبرالي الحر بزعامة كريستيان ليندنر للحزبين الكبيرين، الاتحادي الديمقراطي، والاشتراكي الاجتماعي، وفي ظل الخريطة الحزبية التي ترسمها استطلاعات الرأي، وتأكيد كل الأحزاب عدم تحالفها مع الحزب اليميني «البديل من أجل ألمانيا» نكون أمام 4 سيناريوهات لتشكيل الحكومة الألمانية القادمة، وهذه السيناريوهات هي:
الأول: القوة الضاربة «التحالف الكبير»
وهو التحالف الذي نجح في عهد المستشارة السابقة إنجيلا ميركل ويضم الحزب المسيحي الديمقراطي، والمسيحي الاجتماعي البافاري بقيادة فريدريش ميرتس المرشح بقوة للفوز بمنصب المستشار مع الحزب الاشتراكي الاجتماعي بقيادة المستشار الحالي أولاف شولتز.
الثاني: سيناريو «ائتلاف جامايكا»
وفق هذا السيناريو يمكن أن تتفق 3 أحزاب رئيسية على تشكيل الحكومة القادمة التي يطلق عليها «ائتلاف جامايكا» والتي تضم الحزب الاتحادي المحافظ «الحزب المسيحي الديمقراطي مع شقيقه الحزب البافاري»، وحزب الخضر، والحزب الليبرالي الحر، ويشكل الثلاثة ألواناً تشبه علم جامايكا وهي الأسود للاتحادي، والأصفر للحزب الليبرالي الحر، والأخضر لحزب الخضر. وهناك انفتاح كبير من جانب الحزب الليبرالي الحر للعمل مع الحزب الاتحادي حيث قالت أجنيس ماري شتراك تسيمرمان، النائبة في الحزب الليبرالي الحر، إن حزبها والتحالف المسيحي يتقاسمان أرضية مشتركة واسعة النطاق، وتشكيل حكومة من هذه الأحزاب لتكون مزيجاً ناجحاً للغاية، لأن جمع الحزب الليبرالي الحر مع الحزب الاتحادي المسيحي الديمقراطي مع الاجتماعي البافاري سيكون مفيداً للتحديات الأمنية والاقتصادية التي تواجهها ألمانيا في الوقت الحالي.
الثالث: سيناريو الخضر مع المحافظين
يحتاج هذا السيناريو أن يخالف الخضر الاستطلاعات الحالية، ويحصل على عدد أكبر من المقاعد تصل إلى 17 أو 18%، ويحصل الاتحادي، المسيحي الديمقراطي، والمسيحي الاجتماعي البافاري، على 34% ليشكلا معاً نسبة أكثر 50%.

الرابع: المستشار للاشتراكيين
وهو السيناريو الذي يراهن عليه المستشار الحالي أولاف شولتز، وهو سيناريو يبتعد عن الحزب الاتحادي المسيحي ليضمن منصب المستشار لأولاف شولتز الذي رشحه حزبه رسمياً لمنصب المستشار، ولتحقيق هذا السيناريو يجب أن يتحالف الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر، وحزب وتحالف فاجنكنشت، والحزب الليبرالي الحر، وحزب اليسار، وهذا السيناريو هو الأضعف لعدد من الأسباب أبرزها الشكوك في حصول هذه الأحزاب مجتمعة على 50% من المقاعد، والشكوك بقدرة الحزب الليبرالي الحر والحزب اليساري على تجاوز 5% من الأصوات اللازمة للتمثيل في البرلمان والمشاركة في الحكومة.
الواضح أن ألمانيا دخلت مرحلة جديدة بالاستعداد للانتخابات المبكرة الشهر المقبل، لكن حتى يوم إجراء الانتخابات سوف تلعب التفاعلات الداخلية والانعكاسات الدولية دوراً محورياً في صياغة شكل ومضمون السياسة الألمانية خلال السنوات القادمة.
[email protected]