مسقط: محمد إسماعيل زاهر
«لا شيء سوى المسرح»، هكذا يهتف بطل العرض الأردني «الملجأ» في ثاني أيام الدورة الخامسة عشرة من مهرجان المسرح العربي في العاصمة العمانية مسقط. تلخص تلك المقولة حال المسرح في تعاطيه مع هموم البشر، والتعبير عن آمالهم وتطلعاتهم، حتى تتحول الخشبة ببطء ومن خلال الاشتغال على كافة مفردات العمل الفني إلى مرآة للناس.
في مسرح «قصر البستان» بمسقط عُرض «الملجأ»، لفرقة «612»، من إخراج سوسن دروزة والحاكم مسعود. ومنذ عتبة العنوان يتورط المشاهد في أكثر من معنى، فما الذي يريده العرض من مفردة «الملجأ»، وبعد تصاعد الأحداث رويداً رويداً نكتشف أن المسرح هو الملجأ، الذي نهرب إليه لنحتمي من كافة المخاوف المحيطة بنا، سواء أكانت مخاوف حقيقية واقعية، أو مخاوف نفسية متوهمة.
يبدأ العرض بصوت صفارات إنذار وقصف طائرات، ومجموعة من الممثلين الذين يرتدون الملابس التاريخية، ويتحدثون عن مدن قديمة: طيبة، أرغوس، ويقتبسون جُمَلاً من «عطيل» لشكسبير، و«الممثل كين» لجان بول سارتر، ويصرخون بإدانة الأحداث التي تجري في العالم، من عنف ودمار وقتل، وبعد قليل يدخل أحدهم لنكتشف أنه المخرج وأننا لسنا سوى في كواليس أحد المسارح، ونتابع بعد ذلك عدة حوارات بين المخرج نوفل والممثلة سلوى والممثل جواد، وبعد قليل تدخل فتاة هاربة من شيء ما، ولا تدري إلى أين قادتها قدماها، وتكتشف أنها في مسرح، ثم نعرف أنها خرجت للتوّ من السجن وتدّعي أنها مظلومة، وسجنت لأسباب سياسية بسبب تورطها في عمل مسرحي نتج عنه الكثير من المشاكل، وتطالب سلوى بطردها، ولكن المخرج يقف بجوارها ويعدها بأنه سيصنع منها ممثلة موهوبة، وبعد قليل يدخل رجل آخر يدعي أنه صحفي يعد تقريراً عن المسرح ويبدأ في قراءة الأخبار، ويخبر المجموعة أن هناك قراراً بإغلاق المسرح وعليهم التصرف وإيجاد مكان آخر لتدريباتهم، ويبدأ كل ممثل في الحديث عن ذكرياته بمرارة مع هذا المكان، وتدور أمام المشاهد حوارات غير مترابطة تعبر عن واقع يتشظى، يقول أحدهم: «لماذا الأطفال ليسوا في حافلات الدراسة؟، ويقول آخر:«الطرق التي كانت تؤدي إلى وجهاتها تصيبنا الآن بالمتاهة».
يختتم العرض ببيان شبه سياسي، فالدخلاء استولوا على المسرح، وطردوا أصحابه الأصليين، والذين باتوا مجموعة من اللاجئين في إسقاط واضح على القضية الفلسطينية، ويصاحب ذلك أصوات القصف وسيارات الإسعاف.
إن كان العرض يؤشر رمزياً إلى أن المسرح ملجأ الجميع، حتى من أخطأ، فإنه افتقد إلى الترابط، وهناك إقحام سياسي غير مبرر، وغير مفهوم ولا محل له من الإعراب بين أحداث العرض.
حالة مركبة
واستضاف مسرح كلية الدراسات المصرفية، العرض الثاني لفرقة «نورس» السعودية، وجاء بعنوان «ذاكرة صفراء»، ومن إخراج حسن العلي. في هذا العمل نحن أمام حالة نفسية مركّبة لفنان تشكيلي يدعى أنسي، يعيش وحيداً في مرسمه لمدة خمسة عشر عاماً، يرسم عشرات البورتريهات لامرأة أحبها ذات يوم تدعى حنين، وبعد أن خانته قرر عدم خوض مغامرة الحب من جديد، وتقتصر علاقته على حارس البناية التي يعيش فيها ويسمى عادل، وفي أحد الأيام يُطرق الباب ليجد أمامه فتاة تخبره أنها لم تجد أخيها الذي يسكن أمامه والمطر كثيف في الخارج، وتطلب منه البقاء قليلاً، يعتريه الارتباك ويوشك على رفض طلبها إلا أن عادل يشجعه على إدخالها.
بعد قليل تدور حوارات بين أنسي وأمل، لنكتشف أن الفتاة معجبة به، وبعد قليل يُطرق الباب مرة أخرى، لنعرف أن والد أنسي يزوره لأول مرة منذ سنوات، يرتبك البطل، ويقرر إخفاء أمل فوالده لا يحب النساء، ويردد على مسامع ابنه أنه لا توجد امرأة في العالم تستحق الاهتمام، ونعرف على مهل تفاصيل حياة أنسي، الطفل الذي هرب مع أسرته من ويلات الحرب الأهلية التي وقعت في بلده، وماتت أمه بسبب لغم أرضي وتشوّه وجهه أيضاً نتيجة للسبب نفسه، وهناك مؤشرات على أن الأب كان يكره والدة أنسي، ويخبره صراحة أن أمه خانته، وتتلاحق الأحداث حتى يكتشف الأب وجود أمل، فيعنف أنسي ويغادره إلى الأبد، مما يدخل البطل في حالة من الهلع.
وفي الجزء الأخير من العرض، يبدأ أنسي يتشكك في كل الشخصيات التي حوله، فهل هناك من يدعى عادل وأمل والأب، ويستدعي من الذاكرة صديقه الوحيد حسام، ويبدأ مراجعات للذات وما حدث له في حياته، ولا نعرف على وجه الدقة هل هذه الشخصيات حقيقية أم هو مجرد حوار في عقل أنسي.
جاء العرض محملاً بالكثير من الأفكار، واعتمد على الديكور والإضاءة لإيهام المتلقي بحالة نفسية معقدة، والتعبير عن أحاسيس شخص متوحد يفتش في ذاكرته وما تعرّض له من محن، وتميز التمثيل بحرفية عالية جعلت المشاهد على تماسّ مباشر مع مشاعر متناقضة تتنقل بين الأب والأم والحبيبة والفتاة المتخيلة والصديق الغائب، مشاعر يتشابك فيها الحزن ومرارة الخيانة ومحاولة الانخراط بين الناس والفشل في ذلك.
حزمة من الأسئلة
واستضاف مسرح «العرفان» ثالث عروض اليوم الثاني من المهرجان، وجاء بعنوان«المؤسسة» لفرقة الصواري من البحرين، وإخراج عيسى الصنديد، والعمل مقتبس عن نص للكاتب الإسباني أنطونيو باييخو، ويسافر بالمشاهد إلى مرحلة الحرب الأهلية الإسبانية ليطرح الكثير من الأسئلة التي تخاطب العقل، ففي ذلك العرض نحن أمام شخصيات مأزومة تحمل هموماً متعددة وتتشارك غرفة واحدة، ومع تصاعد الأحداث يدرك المتلقي أن العمل بأكمله محكي من جانب البطل، وما تلك الغرفة إلا زنزانة في سجن تقطن فيها شخصيات تنتظر حكم الإعدام.
يجمع بين العروض الثلاثة خيط ناظم، برغم تفاوت تقنياتها ومستوياتها الفنية، ويتمثل في أنها ترتحل في وجدان البشر كاشفة عن مآسيهم، محللة لكل ما يتعرضون له أو يفكرون فيه، وتغوص بعمق لتعكس حتى أوهامهم، وتلك وظيفة الفن الأساسية والتي تؤكد أننا عندما نريد أن نحلل البشر لا يبقى شيء سوى المسرح.