وصمة الجوع

00:02 صباحا
قراءة دقيقتين

يتنبأ راج باتل، وجاسون مور في كتابهما «تاريخ العالم في سبعة أشياء رخيصة»، بأن تنخفض الغلال الزراعية خلال القرن الحالي بنسبة تقدر ما بين 5 إلى 50 في المئة، نتيجة لتغير المناخ، بما يعني أن هناك مناطق شاسعة في العالم ستعاني المجاعات. والواقع أن من يقرأ في تاريخ المجاعات الكبرى التي تعرضت لها البشرية، سيلاحظ ذلك الارتباط الحتمي بين تغير المناخ وحدوث اضطرابات عنيفة في عملية الزراعة نفسها، بما يؤدي إلى جفاف في بعض المناطق، أو دمار للأرض في مناطق أخرى.
تغير المناخ في الكثير من الأدبيات مسألة ناتجة عن توحش الرأسمالية، التي يرى البعض أنها ستقود إلى خراب بيئي يعم الكوكب، ولكن الملاحظة الأهم، أن الرأسمالية نفسها يبدو أنها لا تكترث كثيراً بذلك التغير وتجلياته من مجاعات واضطرابات سكانية، لأنها وقائع ستحدث في مناطق العالم الأخرى البعيدة عن قلب الرأسمالية.
لم تعرف البلدان الرأسمالية المجاعات إلا في ما ندر، ومع طفرة السكان خلال النصف الثاني من القرن العشرين، رفعت الرأسمالية مصطلح «الثورة الخضراء». كان الهدف مواجهة جاذبية التيارات السياسية المؤدلجة، وخاصة تلك التي رفعت شعار «الثورة الحمراء»، وترافق ذلك مع تطور الهندسة الوراثية وتوفير «الطعام الرخيص»، المرتبط بالعولمة لاحقاً، كما يذهب المؤلفان في الكتاب السابق الإشارة إليه، ولكن المجاعات تفشت في مناطق أخرى في العالم، في الصين خلال ستينات القرن الماضي وفي مناطق في إفريقيا والجنوب.
في تاريخها الطويل كانت الرأسمالية دوماً تقدم للعالم وجهين، أو ترفع خطاباً، وتقوم على الأرض بممارسات تتناقض مع هذا الخطاب، فهي نجحت في فرض العولمة، وما رافقها من تغير في العادات والتقاليد، وأنماط الاستهلاك، ونشرت نموذجها الثقافي وحققت الأرباح الطائلة، ولكنها ليست على استعداد، للإسهام في حل مشكلات المناطق الفقيرة التي هي في الحقيقة أصبحت جزءاً من نطاق العولمة، برغم ادعاء إنسانيتها وأنها تمد اليد للجميع، هذا التناقض كامن في الرأسمالية منذ لحظة بداية خطابها الفكري المعروف بالتنوير، فهناك دعوة إلى قيم الحرية والإخاء والمساواة، ولكن ليس لكل البشر، تجلى ذلك واضحاً في ممارسات الاستعمار التي تناقضت جذرياً مع شعارات التنوير.
ثبت بالتجربة أن الرأسمالية ازدواجية وأنانية ولا يهمها إلا مصلحة الكبار، حتى ولو جاء ذلك على حساب الآخرين، ولا يمكن التعويل عليها في حل مشكلة كانت هي السبب المباشر فيها.
الجوع وصمة عار، ولكن لا يزال شبحه جاثماً في الأفق، يهدد الكثير من البلدان الفقيرة باضطرابات وسيناريوهات لا يعلم مداها أحد، وهنا لا بدّ لتلك البلدان أن تتكاتف من أجل تجاوز هذه المحنة من خلال رؤى وأطروحات جديدة.
الجوع مرة أخرى وصمة عار يذكرنا بأن هناك شيئاً خاطئاً في السلوكيات البشرية، يتناقض مع فعل التحضر نفسه والقيم الروحية والأخلاقية، فبينما يفيض الطعام في مكان، يندر في مكان آخر، وبينما يموت البعض من التخمة، يموت آخرون ليس بسبب نقص الطعام، بل بسبب سياسات من يتشدقون بحقوق الإنسان.

https://tinyurl.com/mevbhfpe

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"