الانشغال بالآخر ومحاربته

00:20 صباحا
قراءة 4 دقائق

حيثما توجد الأنا يوجد الآخر، والأنا هو الفرد والمجتمع والدولة، والآخر هو كل مكوّنات الأنا، والصراع أو التنافس موجود منذ الأزل، منذ وجود الكائن البشري. كأن الصراع مع الآخر من أجل البقاء، وكأن مفهوم البقاء هو حماية الآنا من الأخر، وغالباً ما كان يحدث، في العصور الأولى، إما بالإقصاء أو الإخضاع أو الإلغاء، وكلها تعني هزيمة الآخر، وهذا الآخر لا يستسلم، يجهّز نفسه ويحشد إمكانياته ليثأر أو ينتصر أو يفرض هيمنته، والتبرير كان دائماً، الدفاع عن الوجود، وتوفير الأمن أو الاستقرار أو الرخاء.
واستمر الصراع من أجل البقاء، رغم بدائية المقاربة والتوجّه والمفهوم والوسيلة حتى يومنا هذا، ولكن بوسائل مختلفة، كلها تتسم بالعدوانية، مهما اتخذت أشكالاً وفلسفات مدنية وحضارية، حتى أن البعض استند، مع وجود الأديان، إلى العقيدة والدين، فاتخذ الصراع أشكالاً أكثر دموية، إذ انتقل الصراع من الهدف الأرضي إلى السماوي، والآخر، بعد أن كان يشكّل تهديدًا لبقاء الأنا، أصبح كافراً أو إرهابياً أو خارجاً من الملة أو مرتداً.
وعلى الرغم من تطوّر الإنسان وأساليب حياته، إلا أنه لا يزال يمتلك المفهوم البدائي من أجل البقاء، حيث الآخر هو المهدّد والطامع والمستبد، حتى تحوّل الآخر إلى عقدة نفسية ووطنية، وضرورة اجتماعية وسياسية واقتصادية وإنسانية، فإن لم يجد الإنسان من يحاربه، حارب نفسه، أو اخترع له آخراً، وحارب طواحين الهواء، بمعنى أن وجود الآنا بات يعتمد، وبشكل رئيسي، على وجود الآخر، وبلغة فلسفية، فإن الأخر هو شرط الأنا.
من الطبيعي تقسيم البشر والمجتمعات والدول إلى مجموعات قوية وأخرى ضعيفة، لكن، هذا التقسيم لم يخلق قناعةً في أي عصر من العصور، القوي يطمح إلى زيادة قوته ونفوذه، والضعيف يسعى إلى التخلّص من ضعفه ليصبح قوياً، فيحاول ويجتهد ويسعى، لكنه يصطدم بالحقيقة المرة وهي وجود قوة/ قوى، مهيمنة، وتتحكّم في مجريات الأمور، لكنه لا يستسلم، ويلجأ إلى أضعف الإيمان، الدعاء والتمنّي واقتناص الفرص أو الاحتفاء بمصائب الآخر والبناء عليها من أجل إضعافه أو هزيمته.
والمصائب إما كوارث طبيعية، أو معارضة شرسة قد تؤدي إلى حرب أهلية، أو حرب تخوضها هذه القوة المهيمنة مع قوة أخرى، والتمنّي بهزيمتها، وينسى هذا الضعيف، أنه لن يتمكّن من جني الفوائد، لأن قوة أخرى ستهيمن بدلاً من الأولى، وقد تكون أكثر شراسة ودموية واستبداداً، فالتغيير لا يسير دائماً نحو الأحسن أو لصالح الضعيف، سيما حين يتعلّق بالقوى الكبرى.
ويمكننا ضرب مثال على أمنيات الضعيف المهزوم بما يحدث الآن في الولايات المتحدة الأمريكية، من حرائق هائلة جداً تأكل آلاف الهكتارات وتهدّد السكان والمدنيين، قال البعض إنها غضب الإله من القوة (المستبدة التي تثير الفتن والحروب في كل مكان)، ويأمل البعض الآخر أن الحرائق ستسهم في إضعاف الولايات المتحدة وكسر اقتصادها القوي وقوتها العسكرية الجبارة، وهنالك من ينتظر فوز الديمقراطيين على الجمهوريين وبالعكس، حتى يشهد تغييراً، والبعض الآخر ينتظر الصين أن تقوم بمحاربة الدولار وإضعافه لكسر شوكة الولايات المتحدة وهزيمتها، وهذا الضعيف المتأمل راقب كيف أن النار كانت لا تزال مشتعلة في أراضي بعض الولايات، بينما يتم تنصيب رئيساً للولايات المتحدة، الذي وعد ببناء أقوى جيش في العالم.
والحال ينطبق على إسرائيل، إذ يحلم المناوؤون و(الثوريون)، وهنا نحن لا نستهزئ بأحد، يحلم هؤلاء بكارثة طبيعية تضرب إسرائيل، أو بحدوث حرب أهلية، أو بالإطاحة برئيس الوزراء الحالي، أو بانشقاق وزراء، أو امتناع الجنود عن القتال، أو صعود اليسار إلى سدة الحكم، يحلم هذا بوقوع تلك الأحداث كي يحقق انتصاراً أو يهزم إسرائيل (عدوته)، ولا يعلم أن الخلافات التي ينقلها الإعلام بين اليسار واليمين، أو بين رئيس الأركان ورئيس الحكومة، على سبيل المثال، إنما هي ممارسة لحقوق يكفلها الدستور، وبعد الحلم، يعود الحالم إلى الحقيقة (المؤلمة)، أن شيئاً لم يتغيّر.
ولنغيّر المعطى السياسي قليلاً ونذهب إلى الحاقدين على الدول التي حققت تنمية مذهلة، واستقراراً استثنائياً وباتت وجهة للباحثين عن النجاح والاستقرار، ولنضرب مثلاً بدولة الإمارات العربية المتحدة، فهناك من ينتظر نضوب النفط لتعود الإمارات إلى (عهد الجمال)، كما يقولون، ويتمنون أن تضرب صاعقة البلاد فتدمّر إمكاناتها وإنجازاتها، وقد شاهدنا إطلاق مقاطع فيديو مصطنعة ومفبركة أثناء موجة الشتاء في العالم الماضي، تنقل مشاهد حدثت في دول أخرى تعرّضت لأعاصير، وادّعى ناشروها أنها في الإمارات، من باب الحقد، يتمنون ذلك، وتسير الإمارات من نجاح إلى نجاح.
إن محاربة الآخر عن طريق المراهنة على الكوارث الطبيعية، أو المعارضة السياسية، أو الحروب الأهلية، أو الخلافات الداخلية والانقلابات، هي فلسفة الضعيف الحاقد، الذي فشل في بناء نفسه وقوته، ولم يجد سوى الأمنيات والدعاء والتوقعات والإشاعات والفبركات، بينما ينخره الكسل والفساد وقلة الحيلة، ونسي أن محاربة الآخر أو التنافس معه تتطلب الارتقاء إليه وبناء المعرفة وتحصيل العلوم وبناء المجتمعات وتنميتها وتطويرها، وليس الركون إلى الكسل والاستسلام.

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"