شفاهة جديدة

01:16 صباحا
قراءة دقيقتين

الحديث عن نشأة، أو انبعاث شفاهة جديدة، غير تلك السابقة للتدوين والكتابة، ليس ابن اليوم فقط. جرى النظر إلى الإذاعة والتلفزيون وربما السينما أيضاً عند ظهورها على أنها شكل من الشفاهة، كونها تحمل جرعة أكبر من الحكي، لا من القراءة، وهذا ليس حُكْمَ قِيمةٍ، بمعنى أن الغاية منه ليس التقليل من أهمية هذه الاختراعات العظيمة التي فتحت آفاقاً جديدة للإبداع الإنساني.
لا يصحّ، مثلاً، التقليل من النقلة العظيمة التي أحدثها ظهور الإذاعة في حياة الناس في مختلف المجتمعات. والشيء نفسه يُقال عن الجامعين بين الحكي والصورة المتحركة، أي التلفزيون والسينما، وهذه الأخيرة بالذات عُرفت بالفن السابع، ويقال، إن الإغريق كانوا أول من صنفوا الفنون الستة، قبل مجيء السينما، على النحو التالي: العمارة، الموسيقى، الرسم، النحت، الشعر، الرقص، ليأتي، لاحقاً، الناقد الفرنسي، الإيطالي الأصل، ريتشيوتو كانودو ويطلق على السينما مسمى «الفن السابع»، ليس فقط لكونها إضافة نوعية جديدة للفنون، وإنما أيضاً لكونها «حاوية لكل الفنون الستة، ولكل النشاطات الإنسانية عموماً، وتحتضنها جميعاً في قالب فني واحد».
الحديث يدور، إذن، عن خانة التصنيف الذي يصحّ أن نضع فيه أدوات التعبير هذه، كونها مختلفة عن الكتاب الحامل الأكبر للمعرفة عبر التاريخ، والذي لا يزال يضطلع بهذا الدور رغم وجود منافسين أقوياء له، بينها الإذاعة، التلفزيون، السينما، قبل أن يأتي زمن وسائل التواصل الاجتماعي، لتكون هي الأخرى حكاية بذاتها بحاجة لوقفات مطولة أمامها.
ومع أن بعض هذه الوسائل اعتمدت الكتابة أداة توصيل في البداية، كما هو شأن الرسائل المكتوبة على أجهزة الهاتف، بما في ذلك منها السابقة للهواتف الذكية التي أزاحت ما قبلها من هواتف أو كادت، لكنها سرعان ما أدخلت السماع أداة من أدوات التوصيل، فبات الكثيرون اليوم يفضلون الرسائل الصوتية، عبر الهاتف، على تلك المكتوبة، ربما لشعورهم بأنها أسرع، وتتيح لها مساحة أوسع من عفوية الحديث وتدفقه وسهولة شرح ما يريدون قوله، وتحمل نبرات أصواتهم طبيعة الحال التي هم عليها حين يسجلون تلك الرسائل، أهم فرحون أم حزانى، أصحاء أم مرضى.. إلخ.
بعض من كتبوا عن قضايا التحولات الثقافية والاجتماعية في بلدان الخليج العربي، ومن بينهم الدكتور محمد الرميحي في كتابه «الخليج ليس نفطاً»، وقف عند تجلي الشفاهة الجديدة في مجتمعاتنا، ففي اللحظة التي بدأت في التشكّل ثقافة مكتوبة، ثم السعي الدؤوب لكي تترسخ وتتطور وتؤثر، باغتتنا «ثقافة» الصورة والسماع، وهي، رغم جاذبيتها وإبهارها، لا تحمل، بالضرورة، العمق الذي طبع الثقافة الشعبية الشفوية السابقة للكتابة، ما يعني أن العبرة ليست في الأدوات الحاملة للمعرفة وحدها، وإنما في المحتوى الذي تحمله.
[email protected]

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"