الناشر: دار روايات
الشارقة: علاء الدين محمود
لعل معظم الأعمال السردية الكلاسيكية تقوم على ثيمتي الخير والشر، حيث عمل الأدب على الدوام على الانتصار لأن تسود قيم الخير والحب والجمال، ودائماً ما تبنى الحبكات الروائية والقصصية بطريقة يجد فيها القارئ نفسه منحازاً منذ البداية للأشخاص الذين تسكن دواخلهم فضيلة الطيبة، حيث يبذل الكتاب جهداً في عملية رسم الشخوص الطيبين والأشرار لكي يكون الانتصار للخير مقنعاً، وتظل الحاجة ماثلة لمثل هذه الحبكات السردية في هذا الزمن الموحش، حيث الفردانية والعزلة وتشظي العلاقات الإنسانية.
رواية «الفتاة التي تحترق»، للكاتبة الأمريكية كلير مسعود التي صدرت في نسختها العربية عن دار روايات في طبعتها الأولى عام 2020، بترجمة: خالد الجبيلي، تتحدث عن ثنائية الخير والشر، ولكن ليس بتلك الطرائق المعهودة فهي تمارس فعل التفكيك الذي يكتشف ما وراء قيم الخير والشر، وكيف أن الزمن الموحش المتسارع له مفعول السحر في حياة البشر، وفي العلاقات شديدة الخصوصية بين الأفراد مثل الصداقة، تلك التي قد تضيع معانيها مع زحمة الحياة وأحداثها المتتالية وضغوطها التي لا تكاد تنتهي.
*حكاية
ترصد الرواية تفاصيل الصداقة القوية التي جمعت بين فتاتين هما: جوليا وكايسي اليتيمة، منذ دخولهما رياض الأطفال، تشاركتا كلّ شيء: أغاني ليدي غاغا ووجبات ماكدونالدز والعناية بالقطط، والأسرار الصغيرة. لكن ما كادتا تدخلان سنّ المراهقة حتى اختلف كل شيء في صداقتهما لأسباب لم تفهمها جوليا: هل ما زالت صديقتها المقرّبة مقرّبة فعلًا رغم الصمت الذي ساد بينهما والرسميّة في التعامل؟ هل هم الأهل، أم المدرسة، أم التحولات العمرية، أم الأسرار التي تحاول كايسي إخفاءها عن صديقتها لتحافظ على صورة مثالية في عينيها، ما دفعهما للتباعد؟، تلك الأسئلة الحارقة تدور في ذهن جوليا، والتي يبدو أنها اندهشت تماماً بالتغيير الكبير الذي طرأ على صديقتها لأسباب قد لا تبدو واضحة، لكنها على كل حال قد تكون مبررة، غير أن جوليا كانت شديدة التأثر خاصة أن علاقتها بكايسي كانت متينة جداً، فقد كانتا على الدوام جزءاً لا يتجزأ من حياة بعضهما ، وقد تشاركتا أسرارهما ومخاوفهما ورغباتهما وأحلامهما، حتى أن الفتاتين وكنوع من الهروب من الواقع قامتا ببناء عالم خيالي خاص بهما، ولكن شيئاً فشيئاً، تتغير الأمور بينهما، وتقوم كايسي بتكوين صداقات جديدة تشجعها على التصرف بطريقة أكثر تمرداً، وتطور العلاقات مع الأولاد، حينها تشعر جوليا بفقدان كايسي.
*تعريف
وجاء في تعريف دار النشر بعوالم الرواية: «عندما يكتنف الغموض العلاقات، يبدأ الطرف الأضعف في الاحتراق من شدة الألم النفسي، أو ربما من كثرة التفكير، أو ربما لسبب آخر. عندما يكون الأب حاضراً في حياة ابنته لكنها لا تعرفه، تنظر إليه كل يوم، لكنها لا تدركه، تحبه كثيراً لكنها قلما تعرفه أو تعرف ما يطرأ عليه من تغييرات.. يبدو أن الأب في هذه الأسرة يقف وراء ستار أسود سميك، لا يمكنك أن تلحظ منه أي ملامح أو إطلالات لمشاعر. تنظر إليه من ثقوب صغيرة فقط. هذا ما تدور الأحداث حوله في هذه الرواية الممتعة، التي تحمل الكثير من المشاعر وتكشف عمّا يعتمل في النفس الإنسانية في كثير من العلاقات»، هذا المقطع له أهميته بالنسبة للقارئ، حيث يقدم إضاءة كبيرة حول الصراع الذي عاشته إحدى طرفي علاقة الصداقة تلك وهي الفتاة كايسي.
*مجتمع
تتناول الرواية علاقة الصداقة تلك في بعدها الاجتماعي، حيث تصور فترة المراهقة بالنسبة لفتيات صغيرات من مجتمع البيض تنتميان إلى الطبقة الوسطى في عصر التطور التكنولوجي في أمريكا، حيث المعايير والأهداف في ذلك المجتمع هي الثروة والنجاح، وفي وسط هذا الزحام في معترك الحياة تتلفت الرواية إلى مجتمعات الصغار الخاصة، وموقفهم مما يجري حولهم والعلاقات التي تربطهم، خاصة الفتيات، حيث إن الصداقات التي تكون في الصغر يكون لها تأثير عميق على حياة البشر، وتركز الرواية على الصداقات النسائية التي تموج بالعاطفة والذكريات العميقة، لذلك دائماً ما يكون فك الارتباط بين الأصدقاء حافلاً بالمشاعر المؤلمة، ومن هنا فإن الرواية تترك مصير هذه الصداقة معلقاً، لتقوم برسم خط جديد حول الحياة وقيم الخير والشر فيها، وكيف أن هذه القيم هي التي تشكل الإنسان.
*تحولات
لا يقتصر العمل على سرد حكاية الفتاتين وعلاقة الصداقة التي جمعت بينهما، بل يتجاوز ذلك إلى التأمل في الإنسان نفسه، واستكشاف العلاقات التي تربط بين الأفراد ومعانيها وحقيقة أمرها وقدرتنا على معرفة الشخص الذي نشأنا وتشاركنا معه الكثير، كما تغوص الرواية عميقاً في فكرة الحقيقة وحاجة الإنسان إلى الخلاص والتحرر، ففي خيط رئيسي، يركز السرد على قضية النساء وكيف أن الطفولة تمثل معسكراً إعدادياً كبيراً لهن بحيث يتم مدهن بالأفكار التي تعتقل المرأة في فكرة كونها أنثى لا تمتلك الكثير من الخيارات، ومن هنا فإن العمل يبحث في تحرر النساء وانعتاقهن من ربقة مجتمع ذكوري بامتياز، وهذه العملية الفكرية تتم داخل المتن السردي بصورة هادئة ومنطقية، بحيث يتقبلها القارئ، وفي ذات الوقت بشكل لا يبدو مقحماً أو مؤثراً على جماليات السرد، بحيث إن الشر الذي تتحدث عنه الكاتبة بصورة خافتة يتمثل في شرور المجتمع نفسه.
*مفاجآت
تتميز الرواية بعوالم وحيوات قد لا تجري وفق ما خطط لها، بحيث تتدخل الكثير من المفاجآت والأقدار التي تعترض الطريق المرسوم والأحلام التي تلوح في أفق البشر، أو أبطال العمل والصورة التي كونوها حول أنفسهم، والقصص التي نسجوها حول علاقتهم ببعضهم .
*أساليب
الرواية تطفح بالألم والحزن، ولكن، على الرغم من اللغة الشاعرية الجذابة، وقوة وصف المشاعر الإنسانية، إلا أن الكاتبة عملت عن قصد على أن عدم تمرير ثقل الأحزان، من أجل الاحتفاظ بالواقعية بأكبر قدر ممكن، وذلك ما يجعل القارئ يتورط في المضي قدماً في عالم الرواية رغم حقول الألغام والمآسي، حيث تمتلك المؤلفة القدرة على طرح الأفكار والقضايا التي تجعل المتلقي يستمر في القراءة، ولكنه لا يفعل ذلك بدافع التشويق فقط، بل لمعرفة أسرار الحياة وتكوين موقف منها، لذلك فإن الرواية تبدو محرضة بشدة على التأمل والتفكير، وما يميز هذه الأيقونة السردية هي مقدرتها على التقاط التفاصيل المتناهية في الصغر واستعادة الأحداث والوقائع المهملة والمنسية، وما يعتمل في الصدور من مشاعر.
*صدى
وجدت الرواية صدى كبيراً من قبل القراء والنقاد والصحف والمجلات في أمريكا وخارجها، حيث ذكرت صحيفة «الغارديان»: «من الصعب التوقف عن قراءة هذه الرواية»، فيما وضعتها «نيويورك تايمز»، ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعاً، بينما قالت عنها الكاتبة أليف شافاك: «أحببت جمال الرواية الغاضب، وكلماتها الصادقة».
*اقتباسات
«من الصعب فهم كل الأشياء المختلفة التي تحدث في وقت واحد».
«احذر من الظلام، والعزلة، والهواء الطلق، والنوافذ المفتوحة».
«لا تثق في الذين لا تعرفهم، وحتى الذين تعرفهم قد لا يكونون جيدين».
«بينما ينفتح العالم، فإنه ينغلق أيضاً، وتكشف الأشياء عن أشكالها غير متخيلة».
«لا يمكنك أبداً معرفة ما يحدث لشخص آخر، أو ما يعتقد أنه يحدث له».
«الأشخاص الذين يحبونك يرونك في أفضل صورة».