د. صلاح الغول*
حلّ صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، ضيفاً على فرنسا في 6 فبراير/ شباط الجاري، في زيارة دولة، هي الثالثة من نوعها منذ توليه منصبه في مايو/ أيار 2022. وقد استقبله الرئيس إيمانويل ماكرون في قصر الإليزيه بحفاوة بالغة استثنائية، حيث أُقيمت لسموه مراسم استقبال رسمية مساء الخميس الماضي، وإن كان يقتصر إقامة مثل هذه المراسم في القصر الفرنسي الشهير خلال ساعات الصباح فقط.
ولعل أفضل ما تُوصف به زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد إلى باريس أنها زيارة تعزيز التعاون في مجال الذكاء الاصطناعي وتنويع الشركاء.
فقد جاءت الزيارة قبل بضعة أيام من التئام قمة الذكاء الاصطناعي في باريس، التي جمعت نحو 100 دولة للتركيز على إمكانات الذكاء الاصطناعي. وجاء في بيان فرنسي-إماراتي مشترك أنّ صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد والرئيس ماكرون «أعربا عن رغبتهما في إنشاء شراكة استراتيجية في مجال الذكاء الاصطناعي، وتعهّدا باستكشاف التعاون في المشاريع والاستثمارات التي تدعم تطوير سلسلة قيمة الذكاء الاصطناعي»، وهي الخطوة التي من شأنها إعادة تشكيل المشهد التكنولوجي، وتضع الإمارات وفرنسا على خريطة الذكاء الاصطناعي العالمي.
وخلال الزيارة، تم الاتفاق بين الإمارات وفرنسا على بناء أكبر مركز بيانات للذكاء الاصطناعي في أوروبا في فرنسا، بقدرة 1 جيجاوات، باستثمارات إماراتية تتراوح بين 30 و50 مليار دولار. وسيعمل المركز، الذي يُعد جزءاً من اتفاقية أوسع نطاقاً للذكاء الاصطناعي بين البلدين، بمثابة حرم جامعي جديد للذكاء الاصطناعي. ومن المقرر أن تقوم مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي بتخزين البيانات وتوفير الطاقة الهائلة المطلوبة للتكنولوجيا الجديدة.
والواقع أنّ فرنسا تأتي في مقدمة أولويات السياسة الإماراتية تجاه الاتحاد الأوروبي. فقد وقّعت الدولتان عام 1977 أول اتفاقية تعاون ثنائية، وهناك تعاون متنام بين الدولتين في المجالات التجارية والاستثمارية المختلفة، وفي مجالات الطاقة والتكنولوجيات الحديثة والذكاء الاصطناعي والأمن الغذائي والفضاء ومكافحة الإرهاب. ففي مجال الطاقة، تم توقيع اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة بين الدولتين، في يوليو/ تموز 2022.
وإجمالاً، تُعد فرنسا رابع أكبر شريك تجاري للإمارات بين دول الاتحاد الأوروبي، وأكبر مستثمر أوروبي في الإمارات. وقد جاءت زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد الأخيرة لفرنسا بعيد أيام من تسلّم وزارة الدفاع الإماراتية أول مقاتلة «رافال» من فرنسا وإدخالها في الخدمة، ضمن الدفعة الأولى من الصفقة الدفاعية الكبرى في تاريخ البلدين، التي تم توقيعها أواخر عام 2021، بقيمة أكثر من 16.6 مليار دولار، وتشمل إنتاج 80 طائرة «رافال» مزودة بأحدث التقنيات الدفاعية.
وخلال الزيارة المذكورة، تمت مناقشة فرص توسيع التعاون الثنائي بين الإمارات وفرنسا، وخاصة في المجالات الاقتصادية والاستثمارية والثقافية، وسبل تعميق التعاون في مجال العمل المناخي والطاقة والتكنولوجيا المتقدمة.
والواقع أنّ السياسة الخارجية لدولة الإمارات تنهض على مبدأ تنويع الشركاء مع محاولة تحقيق التوازن في علاقاتها مع الشركاء المختلفين. وينبع هذا المبدأ من مسألة بدهية، وهي أن دولة الإمارات لها مصالح مختلفة مع دول متنوعة، وأنه مع تمدد هذه المصالح وتوسعها تزداد الحاجة إلى شركاء جدد. ويُلاحظ أن مبدأ تنويع الشركاء هو مبدأ شامل، لا يقتصر فقط على المجال الاقتصادي، وإنما يشمل أيضاً المجالين السياسي والأمني، ويستهدف تأمين درجة كبيرة من الاستقلالية للسياسة الاقتصادية والخارجية الإماراتية.
وفي هذا الخصوص، أكّد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، في أول خطاب له بعيد اختياره رئيساً للدولة في 14 مايو/ أيار 2022، أن هدف السياسة الخارجية الإماراتية وتوجهها في المرحلة المقبلة يتمثل في «إقامة شراكات استراتيجية نوعية مع مختلف الدول».
وفي مناسبة لاحقة، بيّن سموه، في يوليو/ تموز 2022، أنه منذ قيامها، عززت دولة الإمارات علاقاتها مع دول العالم على أسس راسخة من حسن التعامل والمصداقية والتعاون البنّاء. ولذلك، اكتسبت الدولة سمعة طيبة إقليمياً ودولياً بجهود أبنائها. وأضاف سموه أن دولة الإمارات سوف تسعى في المرحلة المقبلة للبناء على هذه السمعة في إقامة شراكات استراتيجية نوعية مع مختلف الدول، وسوف تستمر في نهجها القائم على تعزيز جسور الشراكة والحوار والعلاقات الفعّالة والمتوازنة مع دول العالم لتحقيق الاستقرار والازدهار للجميع.
ويأتي توجه الإمارات نحو تنويع الشركاء استناداً إلى مبادئ الخمسين التي تُشكل إطاراً مرجعياً لكافة مؤسسات وقطاعات الدولة، وتنفيذاً لبرنامج الاتفاقيات الاقتصادية العالمية (سبتمبر 2021)، ضمن مشاريع الخمسين التي تشمل حزمة مشاريع ومبادرات استراتيجية للخمسين عاماً المقبلة.
وتتعدد الشراكات الاستراتيجية والاقتصادية التي تنخرط فيها دولة الإمارات داخل الإقليم وخارجه، لأنها تعي أنه «من الأهمية العمل مع شركاء دوليين وبشكل تعاوني في المنطقة للحد من عدم الاستقرار، وتجنّب ظهور فراغ في القوة».
ولكنّ هندسة التوازن تجاه الشركاء المتنوعين، وبخاصة من القوى الكبرى، وبصورة أخص المتنافسة منها، هي عملية سياسية دقيقة، تتطلب انخراط صانع القرار الرئيسي مباشرة في تخطيط وإدارة السياسة الخارجية. ولعل هذا هو مغزى زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، لفرنسا منذ بضعة أيام.
*متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية