د. حسن مدن
لو وضعنا جانباً ما جرى التعارف على وصفه بالمسكوت عنه، يقال إن الصمت أبلغ من الكلام أحياناً، فالصمت قد يحمل بدوره رسالة تنمّ عن حبّ أو غضب، عن رضا أو عتب، لا تقوى أبلغ الكلمات على نطقها، لكن هل يمكن تقسيم الثقافة إلى قسمين: ثقافة ناطقة آتية من القول، أكان محكيّاً أم مكتوباً، وثقافة أخرى صامتة لها تجلياتها المختلفة؟
سؤال توحي لنا به ندوة نُظمّت في دولة الكويت، ضمن فعاليات الدورة الثلاثين لمهرجان القرين الثقافي، بعنوان «الثقافة الصامتة أساس الهوية ومستقبلها»، ومن مداخلات المشاركين فيها سنلاحظ تعدد المقاربات لمفهوم الثقافة الصامتة، فبينهم من ذهب إلى أهمية العمارة كخطاب غير شفوي، معبر عن أوجه من السمات الثقافية وربما البيئية للأمم في مراحل تاريخية مختلفة، كون العمارة، هي الأخرى، متغيرة ولا تثبت على حال، تحت تأثير التحوّل من فقر إلى غنى أو العكس، فضلاً عن أثر الانفتاح في الثقافات الأخرى وما هي عليه من عناصر، كما أن للزمن حكمه أيضاً.
ذهب آخرون إلى إدراج لغة الجسد ضمن الثقافة الصامتة، ومن ذلك أن درجة القرب بين الأشخاص حين يتحدثون مع بعضهم بعضاً تتفاوت بين أمة وأخرى. تقترب هذه المسافات لدى أمة ما، وتضيق لدى أمة أخرى، وهذا الأمر، ضمن مؤشرات أخرى، تعبير صامت عما يحمله التكوين الثقافي لأي جماعة من خصائص تميزها عن سواها. ولا يمكن الحديث عن لغة الجسد دون الوقوف على نظرات العيون، في حالي الود والغضب، فتجاه من نكنّ لهم مشاعر الودّ والدفء، اضطلعت نظرة العين المصوبة نحو نظر من نحدثه بدور تعبيري لا تقوى عليه أبلغ التعبيرات.
وليست النظرة التي ننظر بها إلى الآخر عند اللقاء متشابهة عند أهل الثقافات المختلفة، يقال إننا، نحن العرب، ومعنا سكان أمريكا الجنوبية وجنوب أوروبا: اليونان وتركيا وإسبانيا وإيطاليا إلى حد ما، نميل إلى نظرات أكثر حدة بالقياس لنظرات الهنود والآسيويين عامة، وكذلك سكان أوروبا الشمالية.
أدرج آخرون الشعارات التي يطلق عليها بالإنجليزية «اللوغو»، كتلك التي ترسم على علم دولة من الدول، أو على أغلفة جوازات السفر فيها، أو في أعلى الأوراق الرسمية الخاصة بها، ضمن الثقافة الصامتة، كون «اللوغو» تكثيفاً شديد الدلالة لتاريخ البلد المعني وربما بيئته، فلا يمكن لبلد غير بحري أن يختار السفينة شعاراً له، فيما هناك رموز أخرى تجمع البحر والصحراء في حال احتوى البلد المعني على البيئتين: الساحلية والصحراوية، وقد تكون النخلة رمزاً لبلد آخر وهكذا.
وبتعدد هذه الرموز نقف على تعدد ثقافات الأمم، بما هي عليه من قيم ومعتقدات وأساطير «تنطق» صامتة.