خداع العولمة

00:04 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

تميز التفاعل الثقافي طوال التاريخ بأنه مسألة معقدة للغاية، لا تخضع في كثير من الأحيان لقانون الغالب والمغلوب الذي صاغه ابن خلدون في مقدمته، بمعنى أنه ليس في كل الأحوال يولع المغلوب بتقليد الغالب وتبني أفكاره وسلوكياته، بل بالعكس هناك حالات تاريخية انصهر الغالب في ثقافة المغلوب.
عندما غزا التتار أجزاء واسعة من العالم الإسلامي، انتهى بهم الحال إلى اعتناق الإسلام والتأثر بالكثير من مفردات الحضارة العربية. في حالات أخرى تفاعلت ثقافة المنتصر مع مكونات من ثقافة المهزوم، كما حدث بعد الفتح العربي عقب صعود الإسلام، فهناك عناصر من حضارات المنطقة امتزجت بالثقافة العربية، ونتج عن ذلك المزج شكل ثقافي خلاّق وبنّاء، حدث هذا في العراق وبلاد الشام ومصر، وفي حالات أخرى ظلت ثقافة المستعمر غريبة لم تندمج مع المنطقة التي دخلتها وانتهى الأمر بلفظها، مثلما رأينا خلال مرحلة الحملات الصليبية.
هناك نقطة أخرى في تلك المسألة تمثل إشكالية كبرى، وتتمثل في: ماذا نعني بذلك التفاعل الثقافي؟ وما هي مفردات الثقافة التي تؤثر وتتأثر؟ فقد كان الدين مثلاً من المفاصل الثقافية التي تدخل دائرة ذلك التفاعل خلال العصور القديمة والوسطى، ولكن مع التنوير ورفع شعارات الدولة المدنية والأفكار العلمانية، خرج الدين من تلك المعادلة، ولكن هذا الخروج يبدو أنه كان في الظاهر وحسب، فالغرب التنويري مارس التبشير الديني خلال الاستعمار الحديث، وخير نموذج على ذلك ما حدث في إفريقيا جنوب الصحراء، والتي كانت تتوزع على مناطق إما مسلمة أو وثنية، وبتأثير الاستعمار تحولت الكثير من تلك المناطق إلى المسيحية، هنا سنجد نمطاً جديداً مختلفاً من التفاعل، ويتناقض فيه الشعار مع الممارسة على الأرض.
ولكن في داخل كل هذه الأنماط بالإمكان رؤية التأثير والتأثر الذي يحدث ببطء وعلى مهل، وبالإمكان أيضاً رؤية مفاصل هذا التفاعل وتوزيعها على مجالات محددة: الدين، اللغة، العادات والسلوكيات، الأفكار، والأهم من ذلك قدرتنا على إدراك تلك المفاصل: مكوناتها وأبعادها وكيفية التعامل معها.
الآن، يشهد العالم أكبر عملية تفاعل ثقافي في التاريخ، والمتمثلة في العولمة، وتسير في اتجاهين، الأول اقتصادي من خلال تكوين الشركات العملاقة العابرة للحدود وتقسيم العمل بين مناطق ابتكار ومناطق للعمالة الرخيصة وثالثة للتوزيع ورابعة للبيع، هذا التقسيم يوحي بأن الجميع سيربح، وهو إيحاء وهمي في الحقيقة، فتركيز رأس المال يصب في النهاية في اتجاه واحد. وبخلاف فكرة الربح، هناك استثمار لفكرة المشاركة بين تلك المناطق، ولكنها مشاركة وهمية بدورها، أما الاتجاه الثاني فثقافي، حيث يبدو أن العولمة تدفعنا إلى الشعور بأن الجميع شركاء في ثقافة واحدة، وهو توجه تحاول مواقع التواصل أن ترسخه، وهي فكرة مخاتلة وتتناقض جوهرياً مع نجاحات العولمة في تغيير أنماط الطعام والزي ونشر ثقافة الاستهلاك والنزعة الفردانية.
ما يميز التفاعل الثقافي خلال العولمة، أنه سريع جداً ومكوناته متداخلة يصعب تمييز مفاصلها، من هنا غموضه وقدرته على الخداع.

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"