خفايا الإبداع الأدبي الصوفي

00:07 صباحا
قراءة دقيقتين

ما رأيك في زيارة غير عادية لنادٍ خاصّ في مدينة التصوف؟ لا شك في أن ذهنك بمجرد سماع ذكر العرفان ارتدى حلّةً روحانيةً نورانيةً، استعداداً لتجليات طواسين الحلاج، وشطحات البسطامي، والرقص الدائري في مجالس سماع جلال الدين، وإشراقات السهروردي، والمواقف والمخاطبات عند النفّري.
هذا النادي خاص جداً، لهذا لا يخطر على بال كثير المثقفين وجوده. هم عندما يدخلون مدينة المتصوفين تكون في أذهانهم عناوين محدّدة يقصدونها، لا مثل النحلة. مثلاً: إذا أراد أحدهم زخرفةً لغويةً مع مضامين سهلة قصد ابن الفارض. من طلب تحدّي مكسّرات الرؤوس اقتحم خلوة مُلّا صَدْرَا. أمّا ملحمة «منطق الطير» لفريد الدين العطّار فتلك لمن يهوى العرفان بإخراج «والت ديزني».
بالمناسبة: ما أكسل شركات الإنتاج في العالم الإسلامي، «كالعيس في البيداء يقتلها الظمَا.. والماء فوق ظهورها محمولُ». تنابلة، وإلّا فأيّ ميراث ثقافي في العالم يمتلك رائعتين في عظمة «رسالة الغفران» لأبي العلاء، و«منطق الطير» للعطار النيسابوري؟ موضوعنا أن مثقفينا نادراً ما يعرّجون على مدينة التصوف، فإذا فعلوا كانت جولاتهم خاطفةً، وفي العرفان فقط. لا يودّون اكتشاف وجه آخر للمتصوف، وجه الفنان المبدع، المرح في إبداعه، المفتون بجمباز الكلمة وجمناز الحرف، المتيّم بالتجديد، بالإبداع المختلف، لكن في نطاق العرفان.
كذلك يفعل باخ وموتزارت وهايدن في الأعمال الموسيقية الروحانية. الذين يقصدون محيي الدين بن عربي يشعرون بالرهبة أمام «سلطان العارفين»، صاحب «الفتوحات المكيّة» و«فصوص الحِكَم». تلك المهابة تقف حجاباً دون رؤية الفنان المغرم بفنون الألعاب. الرجل الذي لُقّب بالبحر الزاخر، بحر الحقائق، إمام المحققين، يعشق كتابة الموشحات، أليس أندلسيّاً؟ تأمّل الرقّة الرقراقة: «يا منير القلوب.. بشموس الغيوب.. نفحات الحبيب.. تتوالى عَلَيَّا.. فتريني الحق طلق المُحيّا». عزَفَ على كل القوافي بمقطوعات من الألف إلى الياء. من طرائف ديوانه التناغم الذي ابتكره بين النحو والتصوف، فأمتعنا بشروح صوفية لأدوات مثل: لو، لولا، إن. ألعاب بهلوانية في العرفان لا تحصى.
الرومي هو القمة الصوفية الأخرى، الذي لم يدع للإبداع الفني أفقاً لم يرتَدْه. أبدع أشعاراً في مذاهب الأدب من الرومانسية، والرمزية، والسوريالية، إلى القصيدة البصرية، إلى الثورة على الشعر: «لقد تحررتُ من هذا البيت والقصيد.. يا ملك الأزل وسلطانه... مفتعلن مفتعلن مفتعلن قتلتني». استخدم في غزلياته العرفانية كل مفردات اللغة اليومية، كالمكنسة، والسبانخ... من محاور شعره تجاوب الحواس، والرؤية بالأذن، والسماع بالعين. كان يرى أن الموسيقى أبلغ من الشعر والكلام.
لزوم ما يلزم: النتيجة الاستنتاجية: عندما تتأمّل ابن عربي والرومي تدرك أبعاد البحار التي ترفد الإبداع الفني لديهما. غمزة طائرة إلى المناهج، حتى تعرف ما يحتاج إليه بزوغ العبقريات.

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"