نرسيس الأمريكي

00:01 صباحا
قراءة دقيقتين

ما من مكان في الأعمال الشعرية الكاملة «أوراق العشب» لوالت ويتمان إلّا وفيه أمريكا. إنها أوراق أمريكا وليست أوراق العشب. بيان أمريكي طويل، صاخب ومدجّج بالقوة والاستعراض، تماماً مثل دونالد ترامب الآن بعد حوالي القرن ونصف القرن من زمن «الكاوبوي» على طول العالم وعرضه..
شعر زوبعي مباشر يشبه رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، والأرجح أن رفعت سلام الذي نقل 990 صفحة من القطع الكبير إلى العربية قد احتاج إلى قوة أعصاب استثنائية تماماً لا تشبه شفافية رفعت الذي كان يحب ترجمة شعر الحب، وإذ به محاصر بالقوة والغرور في قصائد تنمو لها أسنان حادة وأظافر من قصدير.
أجل عُدْ إلى قراءة والت وايتمان لكي تتعرف هذه المرة إلى نرسيس الأمريكي ومرآته العالمية الضخمة التي لا صورة فيها إلا صورته، غير أن نرسيس الجديد هذا لا يعبد جماله، بل يعبد قوّته. يعبد القوّة ويعمّمها ويجعل منها قانوناً، وسوف تجد جذور هذه النرسيسية الأمريكية في شعر يتماهى هو الآخر مع معنى القوّة وشروطها المحيطة بالعالم. يقول «ويتمان» مخاطباً أمريكاه..: «أنتِ محسودة الكون/ أنتِ مستحمة، مختنقة، تعومين في الوفرة/ أنتِ السيدة المحظوظة لمخازن الغلال الهادئة/ أنتِ سيدة البراري التي تجلس في المنتصف، وتتطلع إلى العالم/ تتطلّع شرقاً وتتطلّع غرباً/ المانحة/ بكلمة تمنحين ألف ميل/ مليون مزرعة/ ولا تنقصين شيئاً/ أنتِ الكل/ القابلة، أنتِ الكريمة/ أنتِ وحدك كريمة كما الرب كريم».
يخرج والت ويتمان عن طوره الإنساني في إحدى قصائده، ويقول، إنه سيكتب أغنية من أجل مسامع الرئيس «مدججة بالأسلحة ذات الأسنّة المهدِّدَة، ووراء الأسلحة ما لا يحصى من الوجوه الغاضبة»، ثم يقول وعلى نحو مباشر تماماً: «سأتحدث عن كل بطولة من وجهة نظر أمريكية».
في مكان آخر من أوراق العشب، يقول ويتمان: «بكل هباتك يا أمريكا/ تقضين آمنة، تنجزين سريعاً/ تطلين على العالم/ القوّة والثروة والامتداد منحة لك».
لا، بل إن ما سمّاه ويتمان «عبقريّ العالم الحديث» هذا إنما خُلق لينظف الأرض من أجل أمريكا.
يمعن والت ويتمان النظر في نجوم وشرائط العَلَم الأمريكي، في حين أن «كل رجل يمسك بمسدسه، وهو يمشي مشدوداً خلال مدينة بوسطن»، وفي مكان آخر يقول: «أمريكا تبرر نفسها، تمنح نفسها الوقت، لا قناع، لا تمويه عليها يمكن أن يخدعها فهي رصينة بما يكفي».
يقول ويتمان، في إحدى قصائد هذا الديوان الأمريكي النرسيسي: «ابحث عني تحت حذائك»، وربما كان يقصد بهذه العبارة أن ما من مكان تطأه قدمك في أمريكا إلّا وفيه قصيدة لشاعر أوراق العشب، أو أوراق الحديد.
[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"