الإبرة

00:06 صباحا
قراءة دقيقتين

تقرأ ما يُسَمّى أدب السجون، وهو ظاهرة روائية واسعة في العالم، لا لكي تتعرّف، مثلاً، إلى فنون التعذيب، وكيف يجري تذويب الجسد البشري في الأسيد أو دفن البشر وهم أحياء، فهذه أصبحت من الأدبيات القصصية المتداولة ليس في الرواية فقط، بل هي مجريات يومية، تحت عيون الإعلام وشهود العَيان.
تقرأ هذا الأدب الأسود، إن جازت العبارة، لكي تعرف كيف يتحوّل الإنسان بقوّة الإرادة إلى صانع، أو حرفي، يصنع الإبرة مثلاً، ويصبح خيّاطاً وهو في ذروة سعادته. من أين جاءت جينات الإرادة لبطل رواية «تلك العتمة الباهرة» للكاتب المغربي الطاهر بن جلّون، ترجمة بسام حجار؟ جاءت إليه من أمّه وهو هنا في الفصل الحادي عشر من الرواية يكتب رسالة إلى أمّه من السجن: «يَمّا الغالية. مامتي الحبيبة، أُقبّل يديك وأسند رأسي إلى كتفك. إني في صحة جيدة فلا تقلقي. أعتقد أنه بإمكانك أن تكوني فخورة بي».
اترك رسالة قوّة الإرادة هذه عند السجين وأمّه، وعدْ إلى الإبرة حين ينتزع أحد السجناء حلقة من حديد كانت مثبّتة في عصا مكنسة. ويجعل الحلقة مسطحة بواسطة سنّها بحجر خشن ليصنع شفرة يتداولها السجناء ويحلقون بها لحاهم الطويلة. «تنقلت الشفرة المرتجلة من يد إلى يد.. استغرقت عملية المزيّن نحو شهر أو أكثر. أما الشفرة الأخرى فقد صنع منها «لحسين» خمس إبر. كان يمضي الساعات منكباً على سَنّ الشفرة حتى تصبح مستدقة جداً بحيث يتمكن من تقطيعها بواسطة الشفرة الأخرى إلى أجزاء عدة، ثم يعمل على إحداث ثقب صغير في طرف كل جزء حيث يمكن تمرير خيط».
أخيراً يقول السجين: «والآن وقد أصبحنا نملك إبرة صار بإمكاننا أن نُرقّع المواضع الممزقة من ملابسنا، وأن نخيط صداريين أو ثلاثة لمن هم الأكثر وَهَنَاً من بيننا».
لو أعطيت قطعة الحديد تلك لرجل خارج السجن، وقلت له اصنع لي إبرة من هذه القطعة، فسوف يقول لك إنك مجنون، أو إنك تطلب منه معجزة.. «إبرة؟ وثقب إبرة أيضاً؟»، لكن هذه الحكاية كان لها فضاؤها الضيّق جداً. فضاء تلك الزنزانة التي تحدث عنها الطيب بن جلّون في روايته التي تحكي قصة سجن «تزمامارت» الذي يوصف بالرهيب.
أمام مخيّلة الإنسان التي تشتغل عادة بسرعة للتعويض عمّا هو مفقود ومستحيل لا يوجد أبداً ما هو «رهيب»، وفي فضاء هذه المخيلة، وهو عادة فضاء محدّد وصغير، لا يصنع الإنسان الإبرة فقط ويثقبها ويخيط بها في غرفة معتمة بالمطلق ومدهونة كلّها بالأسود (تلك الزنزانة)، بل بوسع ذلك الإنسان المريض والجائع والضعيف أن يصنع كمنجة، ويرسم لوحة، ويكتب قصيدة إذا كانت قضيته عادلة، وفي خلاياه جينات أُمّه.
[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"