الشارقة: علاء الدين محمود
لا يمكن الاستغناء عن الخطوط القديمة مهما تعددت التيارات والأساليب الحديثة، لأن معظم هذه الاتجاهات تصطحب معها القديم، حيث إن أنواع وأشكال الخط العربي متداخلة، وهناك الكثير من الفنانين لا يزالون يصرون على استعادة وهج تلك الخطوط وإبراز جمالياتها وأهميتها ودورها المهم في الحفاظ على هذا الفن العربي الإسلامي الراقي، إذ إن الإبقاء على القديم يعين في البحث عن أساليب جديدة، فالتجديد لا ينتج عن فراغ بل من صميم تلك الخطوط التي استخدمت في الماضي.
من بين تلك الخطوط القديمة يبرز «المحقق»، الذي كان يستخدم في الماضي وقد دار جدل حول أيهما ظهر أولاً خط الثلث أم المحقق، وقد أشار الكثيرون إلى أنه سبق الثلث والريحاني والنسخ والرقاع والتواقيع في سياق انتقال وتطور الخطوط، فالمحقق ولد من خط الطومار، وأتى بعده الريحاني، ومن هذا الخط؛ أي «المحقق»، ابتكر الثلث ثم النسخ والرقاع والتواقيع، ويشار إلى أن المحقق قد انتشر في عهد الخليفة العباسي المأمون ثم اكتسب مع مرور الزمن بعض النضج إذ تم تعديله من قبل شيخ الخطاطين ابن مقلة وأوصله ابن البواب إلى أعلى درجات النضج، واستعمل المحقق لأكثر من أربعة قرون في كتابة المصاحف ذات الحجم الكبير وذلك لمميزاته الكثيرة.
يؤكد الكثير من الخطاطين أن المحقق، لم يندثر، خلافاً لما هو شائع، حيث يعد البناء الأساسي لكافة الخطوط، و لا يمكن الاستغناء عنه أو تركه بالمرة لأنه، بشكل فعلي، موجود داخل كل اللوحات بمختلف خطوطها.
الفنان السوري هيثم سلمو أحد الخطاطين القابضين على جمرة قضية الحفاظ على الخطوط القديمة من النسيان، حيث تمثل أعماله ذاكرة لتلك الجماليات التي تشكل هوية إبداعية للخط العربي، ومن هذه أعماله اخترنا لوحة تخط نصاً قرآنياً، حيث يقول تعالى: «عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ (1) عَنِ ٱلنَّبَإِ ٱلۡعَظِيمِ (2) ٱلَّذِي هُمۡ فِيهِ مُخۡتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعۡلَمُونَ (5) أَلَمۡ نَجۡعَلِ ٱلۡأَرۡضَ مِهَٰدٗا (6) وَٱلۡجِبَالَ أَوۡتَادٗا (7) وَخَلَقۡنَٰكُمۡ أَزۡوَٰجٗا (8) وَجَعَلۡنَا نَوۡمَكُمۡ سُبَاتٗا»، والنص بعض من آيات سورة النبأ وهي من السور المكية وعدد آياتها «40»، حيث تعكس اللوحة جماليات هذا النص القرآني العظيم، وتبرز معانيه الجليلة ودالاته السامية التي تدعو المرء إلى التأمل في عظمة الخالق وبديع صنائعه بما يقود إلى الحقيقة والإيمان، وعمل الفنان على إبراز النص باستخدام الخلفية الصفراء لكي يتدبر المشاهد معانيه.
يمتلك خط المحقق إمكانية كبيرة وأسرار تجعله حاضراً باستمرار في مشهد الخطوط، وتعكس اللوحة ذلك التكامل الروحي والجمالي بين النص والإبداع الخطي، ما يسرب الشعور بالراحة إلى عين المشاهد وتغمر قلبه السكينة، والإشراقات الروحية.
ويعمل سلمو من خلال هذه اللوحة المميزة على استعادة خط المحقق وعكس جمالياته ومميزاته، فهو خط مصحفي بامتياز استخدم في هذه المهمة طوال الحقبة العثمانية والمملوكية، إذ يتكامل فيه التجويد والتنسيق، ويتميز بالحروف المتشابهة والمدّات المتنامية وغالباً ما يزين بالتنقيط والتشكيل، وتتساوى فيه المسافات بين السطور، واستقلالية كل سطر بحروفه، ويمتلك خصوصية في عملية بناء اللوحة وذلك لوضع الحروف فيه حيث يجب أن يكون التشكيل متناسباً مع ميل الحرف، وهو لا يقبل التراكيب إذ إنه يكتب بسطر كتابي واحد، وذلك جعله يتميز بالوضوح باعتبار أن أشكاله وحروفه صحيحة، وهو من الخطوط اللينة يطاوع حركة القلم أثناء الكتابة والرسم، وتغلب عليه صفة الاستدارة، وقد جاء هذا الاسم «المحقق»، نسبة لوضوح حروفه وسهولة قراءته، فبعض الخطوط الأخرى متداخلة ويصعب على المشاهد قراءتها.
*إضاءة
ولد الفنان هيثم سلمو عام 1970، في تل أبيض في محافظة الرقة في سوريا، تعلم الخط على يد عبد الله حسن، ثم أصبح مدرساً للخط العربي مركز الفنون التطبيقية والتشكيلية في حلب، وتمت إجازته على يد أحد شيوخ الخطاطين وهو حسن الجلبي، له العديد من المشاركات وفاز بالكثير من الجوائز، وهو أكثر الخطاطين الذي تخصصوا في خط المحقق وبقية الخطوط القديمة.
عادي
في شاعرية البصر
«خط المحقق».. لحظة إشراق
18 فبراير 2025
20:27 مساء
قراءة
3
دقائق
المزيد من الملف
عناوين متفرقة
قد يعجبك ايضا







