غسيل وورد وأعشاش طيور

00:17 صباحا
قراءة دقيقتين

يكتب رشاد أبو داود بلغته الصحفية المؤثثة دائماً بحرير الشعر عن النساء الفلسطينيات اللواتي ينشرن غسيلهن على هياكل دبابات الجيش الإسرائيلي في غزة، وقد تحوّلت هذه الأسلحة الثقيلة إلى خردة (بعد إصابتها من المسافة صفر).
قمصان وبناطيل ومناديل منشورة فوق ظهر الدبابة المحترقة، يصبح لها هذه الكيفية التي ينتفع منها بعدما تكوّمت هنا في أرض الحرب، الأرض المحترقة تماماً.
وقبل سنوات، قرأت تقريراً في إحدى الصحف الأجنبية عن امرأة فلسطينية قامت بتفريغ هياكل القنابل اليدوية الإسرائيلية وزرعت فيها بعض الزهور، على شكل سرب من القنابل الوردية بمخيلة سيدة فلّاحة «تحب الورد لكنها تحب الخبز أكثر».
لا تكف المخيلات النسائية الغنائية عن إبداع الجمال في قلب القبح. الدبابة تتحوّل إلى غسيل أبيض نظيف، والقنبلة تتحوّل إلى زهرة، بشروط الذائقة الشعرية الفلسطينية، لا بعقلية العسكري الإسرائيلي، وقد يكون هذا شاباً في العشرين من عمره، لكنه مطفأ القلب والخيال.
قبل سنوات أيضاً، واجه متظاهرون مدنيون في إحدى المدن الأوروبية مدافع الدبابات، وقاموا بحشو فوّهاتها بباقات الورد، وفي الماضي البعيد، قرأت قصيدة لشاعر عربي يتحدث فيها عن الطيور التي تبني أعشاشها في خوذات الجنود القتلى المرمية في العراء، ومن الواضح أنها خوذات صغيرة تعود إلى جنود شباب كان بعضهم شعراء.
السلاح ليس كله من الحديد، هناك بعض الخشب في كعب الكلاشينكوف يمكن انتزاعه من السلاح، واستخدامه حطباً للتدفئة.
أمّا هذا الكلاشينكوف، البندقية الأنيقة الخفيفة التي دخلت رمزيتها في الكثير من الشعر العربي، فقد تحوّلت إلى ماركة تجارية في روسيا لبيع مشروبات باسم تسويقي عالمي.
قصص ومشاهدات ووقائع تصبح تمثّلاتها الصورية والعيانية نوعاً من الأدب المرئي، إن جازت العبارة، وهنا يستعير الشاعر أو الروائي كل هذه الصور ويبني عليها نصّه الإبداعي، في حين أن أصل هذا الإبداع في الحقيقة لا يعود للكاتب الأدبي، بل يعود لتلك المرأة الفلّاحة الشابة وربما المكتهلة التي جعلت من القنبلة زهرة، ومن الدبابة رمزية غنائية تتمثل في كل الدلالات الجميلة التي تتداعى إليك، وأنت ترى قميصاً منشوراً على ظهر دبابة، أو كعب بندقية في موقد عائلي يشوي عليه الأولاد البطاطا والكستناء.
متى تنتهي الحرب؟ بل متى تنتهي الحروب برمّتها ورميمها في العالم كله، لكي يكتب الجنود الشعر أو يرسموا اللوحات أو يعزفوا على الكمنجة؟ ما علينا، كل شيء قابل إلى أن يتحوّل إلى نقيضه: القنبلة مثلاً إلى وردة، لكن لن يحدث هذا إلا بمثل تدبير تلك المرأة ذات المخيلة الشعرية.
[email protected]

https://tinyurl.com/54h426hj

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"