إعداد: محمد كمال
بدأت ملامح الخطة العربية لمستقبل غزة تتبلور شيئاً فشيئاً، بعد تراجع إدارة دونالد ترامب الملحوظ عن مقترحها الصادم حول السيطرة الأمريكية على القطاع، وانفتاحها على الحلول البديلة، أمام الرفض العربي والعالمي القوي لتهجير الفلسطينيين عن أراضيهم من أجل تحويلها إلى منتجع سياحي عالمي، ليثور التساؤل: ولما لا تكون «ريفيرا فلسطين»، كجزء أساسي من الدولة المستقبلية المحتملة، التي تجمع أيضاً الضفة الغربية وعاصمتها القدس الشرقية.
وكدليل على تغير الموقف الأمريكي بشأن «ريفيرا الشرق الأوسط»، الذي اقترحه ترامب، والذي يتطلب التهجير الكامل وعدم الحق في العودة، قال وزير الخارجية ماركو روبيو الأسبوع الماضي:«إذا كان لدى الدول العربية خطة أفضل، فهذا أمر عظيم»، وبالفعل بدأت مصر في العمل بهدوء ودقة لتجهيز الخطة بالتنسيق مع الدول العربية، لتشكيل رؤية بديلة لغزة تساعد من خلالها الدول العربية في تمويل إعادة إعمار غزة والإشراف عليها، مع إبقاء سكانها في أراضيهم والحفاظ على إمكان قيام دولة فلسطينية، وفقًا لدبلوماسيين ومسؤولين مطّلعين.
ـ لب الخطة العربية ـ
من المرجح أن تقترح مصر تشكيل لجنة من التكنوقراط الفلسطينيين وقادة المجتمع، وجميعهم لا ينتمون إلى حركة حماس، والذين يمكنهم إدارة غزة بعد الحرب، وفقاً لدبلوماسيين عربيين ومسؤول غربي كبير والسيناتور الأمريكي كريس فان هولين، وهو ديمقراطي من ولاية ماريلاند، حيث قال إنه تحدث خلال الأسبوع الماضي مع وزراء خارجية مصر والسعودية والأردن حول الاقتراح المتطور، وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز.
وأضاف هولين: «سيكون الكثير من التركيز هو أن نثبت لترامب وآخرين أنه نعم، هناك خطة قابلة للتطبيق لإعادة البناء، وسوف نستثمر الموارد هناك»، كما أوضح: «وجهة النظر هي أن ترامب باعتباره رجل عقارات سابق، تحدث عن إعادة تطوير غزة، لكن الآن يجري وضع خطة قابلة للتطبيق تظهر له أنه بإمكانك إعادة بناء غزة وتوفير مستقبل لمليوني فلسطيني دون إجبارهم على مغادرة القطاع».
وعلى مدار أشهر سابقة، جرت أحاديث ومناقشات دبلوماسية عربية متعددة حول فكرة لجنة التكنوقراطية، وحتى الحكومة الإسرائيلية أشارت أكثر من مرة إلى أنها منفتحة على لعب دور عربي رقابي في غزة ما بعد الحرب. ورغم معارضة بعض الأطراف داخل إسرائيل خطط ما بعد الحرب التي من شأنها التمهيد للدولة الفلسطينية، لكن الموقف العربي كان حاسماً في أنه لن يدعم إلا إطاراً يرسم مساراً نحو إقامة الدولة.
ـ معضلات ـ
وحتى مسؤولو حماس قالوا إنهم على استعداد للتنازل عن السيطرة على الشؤون المدنية لهيئة التكنوقراط المحتملة، لكنهم رفضوا حل الجناح العسكري، وهو موقف غير مقبول لكل من إسرائيل وترامب الذي يسعى إلى نزع سلاح حماس بشكل كامل، وهو ما يتطلب تنازلاً وضمانات أمنية صعبة.
ويقول مدير مركز هورايزون للأبحاث السياسية، إبراهيم دلالشة: «إن التحدي الأكبر هو تقديم خطة واقعية يمكن فرضها على الفصائل الفلسطينية وتكون مقبولة أيضاً لكل من إسرائيل والولايات المتحدة»، ووصف ذلك بـ«العملية المعقدة للغاية».
كما يأتي من بين المعضلات، هو الجهة التي ستتكفل بتأمين غزة ومنع حماس من مهاجمة إسرائيل، إضافة إلى أن الجيش الإسرائيلي نفسه سيسعى للتمتع بحرية العمليات في غزة على المدى الطويل.
ـ العنصر الأقوى ـ
يتمحور العنصر الأقوى في الخطة المصرية حول إعادة بناء غزة مع إبقاء الفلسطينيين داخل القطاع بدلاً من إجبارهم على النزوح إلى مصر والأردن، وقد أوضح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الاقتراح بخطوط عريضة في اجتماع الأسبوع الماضي مع رونالد لودر، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، حيث دعا إلى ضرورة البدء الفوري في إعادة إعمار قطاع غزة، دون تهجير الفلسطينيين من أراضيهم.
وتقول بعض المصادر المطلعة إن المرحلة الأولى من زيادة المساعدات الإنسانية لغزة وإزالة الأنقاض سيتبعها بناء المستشفيات والمدارس وغيرها من البنية التحتية اللازمة، وأضافت أن مصر ستدعو مجموعة من الشركات، المحلية والدولية، لإعادة إعمار غزة على مدى السنوات الثلاث إلى الخمس المقبلة، في ظل الحديث عن مشاركات عربية ودولية في الأموال اللازمة لإعادة الإعمار، والتي قد تتخطى حاجز الـ50 مليار دولار، ومن المحتمل أن يطلق عليها «صندوق ترامب لإعمار غزة».
ـ مبررات غربية مخادعة ـ
سواء في إسرائيل أو أمريكا، فإن المدافعين اليمينيين عن خطة ترامب لتهجير مليوني فلسطيني من غزة يستندون إلى مببرات خادعة تتعلق بالإنسانية، وفي غضون 24 ساعة فقط من إعلان ترامب عن الخطة في 4 فبراير/شباط، تم تدشين حملة من خلال لوحات إعلانية ضخمة فوق الطرق السريعة في إسرائيل، بشعار«دعوهم يهاجروا!».
وكان من بين التناقضات الفاضحة أن الحملة رعتها مبادرة تكوما اليمينية المتطرفة، متذرعة بأن التهجير هو «الحل الإنساني»، لكن هذه المجموعة ذاتها طالبت بعد أيام قليلة بقطع الماء والكهرباء عن غزة، وفقا لهآرتس العبرية.
ثم أطلت أصوات العقاب الجماعي مجدداً، وقالت الكاتبة سارة كوهين، في صحيفة «يسرائيل هيوم»، إن طرد سكان غزة أمر أخلاقي وعادل، وترتكز حجتها على الذنب الجماعي لجميع سكان غزة، ثم تناثرت تصريحات إسرائيلية عن رغبة أهالي غزة أنفسهم في الرحيل. لكن في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، أظهر استطلاع رأي أمريكي أن 92% من سكان غزة عبّروا عن رغبتهم في العودة إلى منازلهم التي نزحوا منها قبل الحرب.
ـ أهم المراحل ـ
وإذا كانت الخطة العربية، تتحدث عن مستقبل غزة بعد الحرب، فإنها تقوم بالأساس على تنفيذ المراحل الثلاث لاتفاق وقف القتال بين إسرائيل وحماس، وبعد أن كاد الاتفاق ينهار ضغطت كافة الأطراف لاستعادة المباحثات، ومن المقرر أن تشهد الأيام المقبلة مفاوضات المرحلة الثانية، التي من المقرّر أن تبدأ في الثاني من مارس/آذار، وتتضمن إطلاق سراح جميع الرهائن وإنهاء الحرب. أما المرحلة الثالثة والأخيرة فستُخصص لإعادة إعمار غزة، وهو مشروع ضخم تقدر الأمم المتحدة كلفته بأكثر من 53 مليار دولار.
ويبدو أن مشاهد الفرحة التي اعتلت وجه الغزيين مع دخول المزيد من المنازل المتنقلة وجرافات رفع الأنقاض عبر معبر رفح مع مصر، تمهيداً للبدء في البناء وإعادة الإعمار تعطي أصدق إجابة عن مدى تمسك مليوني فلسطيني بالبقاء في أراضيهم، وأملهم في دولة مستقلة كأحد حقوقهم التاريخية، التي أقرتها القوانين والأعراف الدولية، وأن حل الدولتين هو الضامن الأكيد للسلام في منطقة الشرق الأوسط برمتها.