فاطمة البلتاجي ذات الفساتين الطويلة

00:01 صباحا
قراءة دقيقتين

كانت مراهقة جيلنا نحن من دخلنا إلى قوس الستين، كما يقول الشعراء، هي المرحلة الأجمل في الغناء العربي: عبدالحليم، فريد الأطرش، شادية، عفاف راضي، محرّم فؤاد، وأم كلثوم، وهذه الأخيرة تصبح «كوكب الشرق» كله وليست كوكب مصر وحدها التي كانت آنذاك مصنع السينما والمسرح والأدب والصحافة والسياسة. وفي هذا الإطار الكوكبي المصري كانت «الست» ظاهرة، وحالة إلهام، وفضاءً ثقافياً واجتماعياً وجمالياً لم تعرفه «أم الدنيا» لا قبل الكوكب، ولا بعده.
تمرّ هذه الأيام خمسون عاماً على الغياب المجازي لذلك الكوكب الذي تكثّف في امرأة جاءت من الريف إلى القاهرة، فجعلت من المدينة المليونية حارة صغيرة للباشوات و«الغلابة» معاً. لا أحد أفضل من أحد في جمهورية فاطمة بنت الفلاح المؤذن السيد البلتاجي، سليلة الشجر والماء في محافظة الدقهلية. وسوف يخرج صوت مصري مرتب في بضع كلمات يلخّص حكاية السيدة صاحبة المنديل و«البروش» والفستان الطويل: «عظمة على عظمة على عظمة»، وهي بإشارة كاريزمية صغيرة تعيد صالتها إلى الإصغاء والهدوء. لا صخب، لا عنف لا استعراض سخيف خفيف، فقط أم كلثوم.
يأخذ الإصغاء لصوت صاحبة «انت عمري» شكلاً من أشكال التلقّي الصوّفي، لكن من دون ثقافة أو مثاقفة. إنه صوت الكوكب، يتلقّاه الشرق عن طريق الأعصاب قبل الأذن البشرية السمّاعة. إنه صوت الحب.
حوّلت أم كلثوم فكرة الحب إلى سياق جمالي ثقافي، وهي في ذاتها كانت قصة حب، إمّا من طرف واحد وإما من طرفين، لكن الطرف الثاني وهو أم كلثوم كان دائماً غامضاً. إنها كوكب وحسب، تعلّق به القليل من الشعراء والموسيقيين العازفين، ويجب أن يكونوا قلّة، لأن السيدة في حد ذاتها كثيرة.
خمسون عاماً بالضبط. نصف قرن بالمعنى الزمني الفيزيائي، أما بالمعنى الوجداني الثقافي فهو زمن طويل. زمن كثير كثير مثل كثرة الكوكب البشري الموجز في سيدة ساد صوتها الحياة، وجعلت من كل حفلة غناء لها حفلة حب.
في نصف القرن هذا لم يجلس في مقعدها لا رجل ولا امرأة. فساتينها أطول بكثير من نساء عديدات يغنّين وهن يحملن الميكرفون حتى لتكاد الواحدة منهن تبتلعه. ويقال إن أم كلثوم كان يجب عليها دائماً أن تغني وهي بعيدة قليلاً عن الميكرفون. لماذا؟ الأمر ليس سراً مثل سرّ المنديل، بل هو الصوت المعجزة.
قد يعيد التاريخ نفسه، لكن المعجزات تحدث مرة واحدة، وبخاصة معجزة فاطمة البلتاجي ذات الفساتين الطويلة.
[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"