في معنى التقليد

00:54 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبد الإله بلقزيز

يشير مفهوم التقليد - بحسبانه ذلك الأثر المادي أو اللامادي الذي تحقق في لحظة من الماضي - إلى الزمن. وهو، بالمعنى هذا، يرادِف دلالة الأثر القديم من غير أن يتوقف معناه عند هذا الحد، إذْ هو أوسع دائرة مما يُفيدُهُ مفهوم القِدَم كمفهوم ثابت (ستاتيكي) لا يخضع لدينامية متجددة ومجاوِزة لشرطه التاريخيّ. ما يميز التقليد عن القديم أنه يُبارحُ شرطه الزمني الماضي عند من يتّخذونه من اللاحقين مرجعاً وعلى منواله ينسجون مع أنهم ينتمون إلى زمن بعْدِيٍّ آخر.
وهكذا، ليس كل قديم تقليداً إلا متى أُعِيدَ إحياؤُه ونُسِجَ على صورته واقْتُدِي به، أي كلما توقف عن مجرد أن يكون قديماً منتهي الصلاحية ليصير إلى نموذجٍ يحتذى ويبْنى عليه ويُسَارُ على هدْيه. هذا، بالذات، هو الذي يُفيدُه معنى السُّنّة في اللسان العربي بما هي تقليدُ سَلَفٍ يُنْظَر إلى أقواله وأفعاله بوصفها مرجعيةً ولازمةَ التقليد والاقتداء، وهو عينُه المفهوم الذي أخذ به علماءُ أصول الفقه في الإسلام منذ الشافعي حين حديثهم عن السّنّة وتشديدِهم على وجوب اعتبارها من مصادر التشريع، ولقد شاع العملُ بهذا المفهوم عند المفسرين وفي ميادين أخرى من الفكر الإسلامي.
التقليد، إذن، ما دُرِجَ على العمل به وعُدّ التّمسُّكُ به ممّا تلتحم به الجماعةُ وتَنْمَازُ من غيرها. هذا ما يفسّر لماذا لا يخلو مجتمع ولا تخلو ثقافة منه، إذِ الحاجة إليه لديهما قاضيةٌ بوجوده ودافعةٌ نحو تسويغ الطلب عليه. من الملحوظ أن تياراً كبيراً، داخل كل مجتمع وثقافة، يُلحّ كثيراً على وجوب التمسك بالتقليد بحسبان ذلك من عُدَّة الهُوِيّة وعتادها، فكأنما الاستمرارية التاريخية عند هذا التيار وحدها تضمن للجماعة كينونتها الممتدة في التاريخ، وتَحْفظ الثابت في شخصيتها ضد قانون التّغيُّر والقطيعة الذي يَمْسَخُها أو يُودي بها إيداءً.
قد لا يكون صحيحاً أن نَعُدَّ مناهضي التقليد - من المدافعين عن التغيير والتّحديث - منفصلين تماماً عن فكرة التقليد، مُحدِثينَ القطيعةَ الكاملة معه، فلقد يكون عسيراً تخيُّلُ مجتمع أو ثقافة في حالة خالية من مستويات الاعتقاد بفكرة التقليد حتى في أدنى معانيها. وآيُ ذلك أن من يقدمون أنفسهم، في العادة، بوصفهم دعاةَ قطيعة مع التقليد منفصلين عنه، بالكلّيّة، كثيراً ما يسقطون في تقليد من يصير من رموزهم الحديثة، وفي هذا ما يدل على تجذر فكرة التقليد في الذهنية العامة، حيث يُفصِح عنها المسكونُ بها أياً تكن مرجعياتُ التفكير لديه.
ليس من إمكانٍ، إذن، لأن يستقيم وجودٌ لأي مجتمعٍ ولا لأي ثقافة من دون أن يحتل فيها التقليد (والتقاليد) مكانةً معتَبَرة، أو من غير أن يتجدّد مفعولُه فيهما. يعرف علماء الاجتماع والأنثرپولوجيا أدوار التقاليد في إعادة إنتاج النظام الاجتماعي، ويعرفون إلى أيّ حد تتمتع فيه تلك التقاليدُ الجمْعية بالحُرمة والتوقير، حتى أن بعضها تُخْلَع عليه أرديةُ التقديس. يمكن لنظرةٍ متسرعة وسطحية أن ترى في التمسك الشديد بالتقاليد ميْلاً إلى المحافظة وإلى إنكار الحديث.
لكن الأمر يختلف في منظار علم الاجتماع الثقافي والأنثرپولوجيا الثقافية، حيث التفكير ينصرف إلى تبيُّن الوظائف والأدوار والديناميات داخل النظام الاجتماعي لا إلى الحكم على الظواهر حكماً معيارياً يُتَوَسَّل فيه بقيمٍ بعينها يُقاسُ عليها. ولقد يكون من المألوف جداً، في منظور سوسيولوجي للظاهرة، أن نَلْحَظ تجاوراً وتعايُشاً مديداً بين اجتماعيات تقليدية أو متمسكة بالتقاليد وانصهاراً حياتياً، في الآن، عينِه، في منظومة التحديث، أَكَانَ نطاقُها اقتصادياً أو سياسياً أو استهلاكياً.
وكما ينطبع الاجتماعيُّ بالأثر البالغ للتقليد فيه فتسري في نسيجه قيمُ ذلك التقليد وعلاقاتُه، وتتكون هيْئاتٌ اجتماعية ترمز إلى ذلك التقليد وتَسْدُنُه (وقد تكون الهيْئات الدينية ومؤسساتُها في جملة من يرعاه)، كذلك ينطبع الثّقافيُّ (والفكري والمعرفي) بآثاره وتسري فيه قِيمُه التي يقوم على الحدْب عليها وتعظيمِها في الحقل الثقافي جيشٌ من الألسُن والأقلام ينتظم داخل تياراتٍ ثقافية تحاول أن تحتكر لنفسها تمثيل صحيحِ الثقافة، أي تلك التي يُزْعم أنّها تعبّر عن «روح» الجماعة وشخصيتها الثّابتة في مواجهة ما هو في حكم الدخيل على كيانها من تيارات وأفكارٍ «برانية» المنشأ.
وغنيّ عن البيان أنّ مقالات التقليد في أيّ ثقافة لا تجسد نوع التكوين الثقافي الذي يتلقَّاه أصحابُها أو مكانةَ المنظومات المعرفيّة القديمة في وعيهم، فحسب، بل كثيراً ما تعبّر عن انحيازاتٍ إيديولوجية وسياسية لديهم في الواقع الاجتماعي القائم. وليس من دليلٍ على هذا أدلّ من أنّ كثيراً ممّن يتبنّون إيديولوجيا التّقليد ويدافعون عن قيم التقليد ليسوا من المحافظين، أصلاً، بل هم ممّن تلقّوا تكويناً حديثاً في فروع المعرفة العلميّة، أو حتّى في جامعاتٍ أجنبيّة، ولكنّهم لا يكُفّون عن الاعتقاد بأنّ الانحياز إلى التّقليد والدّفاع عنه يخدم وحدة الثّقافة والمجتمع ويعزّز قدرتهما على مواجهة تحدّيات التقدم والعولمة...
علاقةُ التقليد بالحاضر، إذن، علاقة مكينة، إذْ هو إلى الحاضر ينتمي حتّى وإنْ كان محمولُه مستقًى من القيم التي تنتمي إلى زمنٍ قديم. ولأنّه منتوجٌ من منتوجات الحاضر، وحاجةٌ من الحاجات الحيوية في قسمٍ من هذا الحاضر، فإنّ صلة التقليد بما هو حديث صلةٌ معقَّدة للغاية بدليلِ أنّه كثيراً ما يتمظهر في صورٍ حديثة منه أو هي توحي بذلك.

[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"