برد وتدفئة وكستناء

00:13 صباحا
قراءة دقيقتين

المجازات الشعبية أجمل بلاغة أحياناً من مجازات الأدب الفصحى. والتي ينتجها عادة الشعراء، وإليك مثلاً هذا المجاز:.. (البرد يقصّ المسمار)، وفي عمّان الآن درجة الحرارة تصل أحياناً إلى ما تحت الصفر، فيتجمد الدم في العروق، وتذهب بعض الزراعات الغذائية الصغيرة ضحية الصقيع، حيث يجمد الماء في الصنبور، وتكثر المعاطف وفراء النساء، .. وكل أوان لا يخجل من أوانه، كانت أمّي تقول مجازاتها حين يدخل الصيف، ويذوب الثلج، ويطهر ما تحته.
في الفقرة أعلاه أكثر من مجاز.. من مجاز البرد إلى مجاز الأم، وكان أبي رحمة الله عليه يقول لي (يا ولدي دائماً، اشترِ، ولا تبع)، وطبعاً، يلاحظ القارئ أن العبارة مفصّحة وليست شعبية. إنها بفصحاها تلك ليست عبارة الأب، وليست عبارة الأم، بل هي عبارة اللغة وفي كل الأحوال.. اللغة هي الأب وهي الأم.
أعود إلى برد عمّان الذي يقصّ المسمار، وتتداعى إليّ من بعيد ظاهرة التدفئة في البيوت القديمة في جبل اللويبدة وجبل عمّان والحسين والعبدلي، وكانت تمديدات أنبوبية يجري فيها ماء ساخن، وتعود إليّ وإليك تلك التدفئة بالماء الساخن عبر مدافئ حديدية مثبّتة في البيوت، فضلاً عن مدافئ الحطب التي تُلقى فيها قرامي الأشجار والخشب وبعض أغصان الأشجار اليابسة.
تهسهس النار في الموقد حتى تكاد تتكلم، ويمد اللهب الأحمر والأزرق لسانه لسكان البيوت في عمّان، ثم تلقى الكستناء في النار، وتفرقع.. وتتوجع..
صحيح أن الصقيع يأكل الحديد، ولكن فضاء التدفئة العائلي في حدّ ذاته حالة شعرية بامتياز في عمّان خلال فبراير/ شباط، ومارس/ آذار، وإبريل/ نيسان، ولكل شهر مجازاته مرة ثانية: شباط الخبّاط حيث تتناسل القطط، وآذار شمس وأمطار، وفي نيسان يتفتح زهر اللوز (أو أبعد..).
الشتاء في كل مكان شهر الكتابة والصور الخارجة عن نطاق ما هو داخل البيت، حيث تنتشر سقوف القرميد الأحمر والأخضر على أسطح البيوت في عمّان، وتمد المدافئ بأعناقها الصغيرة، وينتشر الدخان فوق القرميد بما يعني أن الموقد ما زال يلتهم حطب العائلة.
رأيت الكثير من هذه الصور في جبل اللويبدة، رأيت القرميد والمدافئ وزهر اللوز وخيوط الياسمين البيضاء والخضراء.
ما من شاعر مرّ في اللويبدة في الشتاء أو في الصيف إلّا وطافَ به طائف من ملهمي الشعر. فإذا لم تكن امرأة رَمَتْ فوق كتفيها شالاً من الفراء الأسود أو الأبيض، فهو صديق قد أعطاك طرف الخيط لتكتب على مهلٍ مثلما تستوي الكستناء في الموقد.
أردت أن أكتب عن مجازات الناس في الشتاء، وإذْ بي أكتب عن الشعر والفراء والمواقد، تماماً مثل شاعر يحب البحر، فإذا به يكتب عن الموانئ والمراكب والسفر.
لخّص جوزيف حرب هذه الحالة الشعرية على لسان فيروز بقصيدة شعبية كانت فصاحتها مثل بلاغة المسمار الذي يقصّه البرد.. قال: «يا ريتو ما كان في مراكب، يا ريتو ما كان في سفر..».
والآن سأعود إلى عبارة أبي: (أشتري ولا أبيع) وبمجاز آخر: «أكثر من الصمت، وقلّلْ من الكلام».
[email protected]

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"