جميل مطر
علّمونا في المدارس ثم في الجامعات ثم في سنوات الممارسة العملية كما العلمية قراءة وتحليل علامات الطرق الموصلة إلى المستقبل. كنا نخطئ، وفي بعض الأحوال ومع مرور الوقت والاجتهاد كنا نصيب. أصبنا في بعض محاولات استشراف مستقبل المراحل الانتقالية في النظام الدولي، وهي بلا شك الأصعب في الرؤية أو التخمين، وأخطأنا في أكثرها. نحن الآن، وأقصد البشرية في وضعها الراهن، على أبواب مرحلة انتقالية تبدو من كثير من علامات الطريق المؤدية لها أنها ربما تكون من نوع المراحل الأشد غموضاً مقارنة بمراحل عديدة تابعناها في كتب التاريخ وخاصة في القرون والسنوات الأخيرة.
قمت في الأيام الأخيرة بتجميع عدد من هذه العلامات قابلتني خلال محاولة استطلاعية لاستشراف مصيرنا كبشر في عالم ينتقل من حال إلى حال جديد تماماً، وكأمة في نظام إقليمي ينتقل بدوره وتحت أقصى درجات العنف والتآمر والتشدد الديني أو القومي من حال إلى حال، نظام إقليمي لا يزال مجهولاً لجمهرة الباحثين، ولا يزال عصياً على فهم وربما على إرادة جماعات صنع السياسة والقرار في عالمنا العربي. أعرض في السطور التالية، وبدون ترتيب أولويات، بعض هذه العلامات المحيرة والمثيرة للجدل وكثير من الغضب.
* أولاً: شخص دونالد ترامب، بصفاته العديدة وبعضها خارق للمألوف، وبموقعه رئيساً لدولة هي القطب الأقوى، وليس الأعظم، في النظام الدولي بشكله الراهن. صفاته بلا شك عديدة واجتماعها في شخص واحد صدفة مذهلة. من هذه الصفات ما يصنف تحت عنوان علل نفسية نوقشت وتناقش في دور العلم وأجهزة الاستخبارات لن ندخل في تفاصيلها باستثناء صفة النرجسية الشديدة والمتفاقمة بسبب تقدم العمر ودورها في صياغة متغيرات وصنع ظروف وأحوال تتعلق مباشرة بالحالة الانتقالية.
* ثانياً: مصير يتكرر لشعب أعزل، أقصد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية. يتعرض هذا الشعب لما سبق أن تعرضت له أمة سكنت قارة أمريكا الشمالية قبل قرنين من عمليات تهجير بالحرب والتجويع والمطاردة من مكان لآخر حتى تحققت الإبادة. أبيدت القبائل واحدة بعد الأخرى وفي النهاية امتدت الإبادة إلى الأمة باستثناء أقلية أسكنتهم حكومة المستوطنين البيض في «معازل» مغلقة. أعلم علم اليقين أن هذا المصير يعيش في وعي كل فلسطيني يهدد استقراره وطموحاته ويبقى دافعاً قوياً له ولأولاده وأحفاده من بعده للانتقام والمقاومة. نحن شهود على فشل كل المحاولات الراهنة لفرض شرط محو المقاومة من وعي الإنسان في غزة والضفة في إطار اتفاق سلام يعقد بين الاحتلال وهذه المقاومة.
* ثالثاً: كان ظهور «كير ستارمر» على مسرح المرحلة الانتقالية للعب دور في ساحة معبأة باليأس والخوف والغضب مفاجأة للكثيرين في أوروبا ولترامب نفسه. ففي غياب لاعب فاعل في أوروبا، وفي خضم حملة «إنكار» أمريكي لوجود أوروبا لاعباً أساسياً في هذه المرحلة، وفي وقت اشتعال أزمات سياسية في كل من فرنسا وألمانيا وجنوح كل من إيطاليا وإسبانيا إلى جانب المعارضين لأمريكا الترامبية وموقفها من قضية أوكرانيا، وفي ظل غضب عارم في جميع دول البلطيق من أسلوب تعامل ترامب مع رئيس أوكرانيا واعتبار هذا الأسلوب في التعامل درساً موجهاً لكل الدول المتاخمة لروسيا وبخاصة بولندا، في ظل هذه العوامل مجتمعة أظهر كير ستارمر رئيس وزراء المملكة المتحدة شجاعة فائقة في محاولة لإنقاذ أوروبا.
* رابعاً: لاحظنا أنه في لحظة الغضب والخوف على مصيره الشخصي لجأ الرئيس زيلينسكي إلى الأملين الباقيين، وهما بترتيب ما فعل، الأول، لجأ إلى الصهيونية العالمية التي ينتمي إليها بالدين والمجاهرة بدعم مبادئها التوسعية في فلسطين، والثاني إلى أوروبا وبالتحديد العنصر القادر في تلك اللحظة وهو بريطانيا، وحليف عضوي لأمريكا، إن ابتعد عنها فإلى غير بعيد، وإن اختلف معها فلصالح تحالفهما.
* خامساً: مرة أخرى تتقدم تركيا باقتراح أن تتدخل لدى الأطراف المعنية داخل حلف الناتو لتقريب وجهات النظر وبخاصة المتعلقة بقضية الأمن الأوروبي. تتصور تركيا أنها بصفتها مالكة لثاني أكبر جيش في الحلف بعد بولندا تصبح الأقدر على تجميع الآراء وقيادة الاتصالات الضرورية لتحقيق هدف إقامة قوة عسكرية أوروبية مستقلة نوعاً ما عن الولايات المتحدة.
* سادساً: مرة بعد أخرى يلاحظ مفكرون أوروبيون وأمريكيون أن أمريكا وروسيا صارتا تتشابهان في أمور تتزايد بمرور الوقت. لم تعد الأيديولوجيا عامل افتراق واختلاف، استمرت سياسات الدولتين تتجه نحو التوسع في السيطرة والهيمنة، زيادة مطردة في اعتماد النخبة الحاكمة في الدولتين على جماعة المطورين، أقصد المقاولين الكبار، وهي الجماعة التي صار لها دور معترف به في صنع السياسات الداخلية والخارجية للبلدين وبلاد أخرى.
ما أكثر علامات الطريق! اخترت بعضاً قليلاً منها وبقي الكثير في انتظار مناسبات أخرى تفرز عند حدوثها أو في أعقابها علامات جديدة أو تؤكد وتثبت علامات قائمة بالفعل. نبقى في انتظار أحداث داخلية في أمريكا أغلبها مرتبط بوجود عنصر غريب ومثير للجدل في أداة الحكم، بل وفي قلبه وأقصد في المكتب البيضاوي إلى جانب الرئيس وبعضها متعلق بتطور الأمور في الشرق الأوسط وبخاصة استمرار إسرائيل في انتزاع إقليم بعد إقليم أو أقلية بعد أقلية من وطنها الأم ووضعها تحت الحماية أو الاحتلال الصهيوني، واحتمالات رد فعل النظام الإقليمي العربي ابتداء من احتمال تكرار العجز المؤقت للنظام في مواجهة كل حالة على حدة وانتهاء باحتمال انفراطه نهائياً.