في العقود الأخيرة، شهدت الحياة تغيّرات جذرية انعكست بشكل مباشر على دور الأسرة في تربية الأبناء، حيث كانت الأسرة قديماً المصدر الأساسي للقيم والتوجيه، وكان للأب والأم دور واضح ومحدد في تنشئة الأطفال وإعدادهم للحياة. أما اليوم، فقد أصبحت الأسرة تواجه تحديات جديدة تهدد هذا الدور، ما يثير تساؤلاً مهماً: هل فقدت الأسرة الحديثة دورها في التربية، أم أنها فقط تغيرت لتواكب العصر؟
التغيرات الاجتماعية والاقتصادية انعكست بشكل كبير على طريقة التربية، خروج الوالدين إلى سوق العمل جعل الوقت الذي يقضيانه مع أبنائهما أقل بكثير مما كان عليه في الماضي، لم يعد الأبناء يتلقون التوجيه الكافي من والديهما كما كان الحال في الأجيال السابقة، بل أصبحوا يعتمدون على التكنولوجيا، والمدارس، والأصدقاء في اكتساب المعرفة والسلوكيات، ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح التأثير الخارجي أقوى من أي وقت مضى، حيث يتعرض الأطفال والمراهقون لأفكار وسلوكيات قد لا تتناسب مع قيم الأسرة، مما يضعف دورها التقليدي ويجعلها تواجه تحديات غير مسبوقة.
هناك من يرى أن دور الأسرة لم يتراجع، لكنه تغير ليتكيف مع العصر الحديث، لم يعد فرض القيم والتوجيهات بالطريقة التقليدية كافياً، بل أصبح على الأسرة أن تعتمد على الحوار المفتوح وبناء علاقة قائمة على الثقة، بحيث يكون تأثيرها أعمق من مجرد إعطاء الأوامر والتعليمات، في المقابل، يرى آخرون أن الأسرة فقدت الكثير من سلطتها التربوية، ولم تعد تتحكم في المحتوى الذي يتعرض له الأبناء، ما جعل تأثيرها أضعف مقارنة بالمؤثرين في وسائل الإعلام والمجتمع الافتراضي، وهو ما يضعف قدرتها على غرس القيم والسلوكيات الصحيحة كما في الماضي.
ورغم كل هذه التحديات، لا يزال بإمكان الأسرة أن تلعب دوراً محورياً في تربية الأبناء، ولكن بأسلوب مختلف عما كان في السابق، فبدلاً من التركيز على الوقت الطويل الذي يقضيه الوالدان مع أطفالهما، يجب التركيز على جودة هذا الوقت، فالتربية بالقدوة تبقى أكثر تأثيراً من التوجيه المباشر، فالأبناء يتعلمون من أفعال والديهما أكثر مما يتعلمون من كلماتهما، كذلك، التوازن بين الحزم والمرونة يساعد في تكوين شخصية قوية ومستقلة، إذ أن وضع القواعد والانضباط يجب أن يكون مقروناً بالحب والتفاهم، بحيث يشعر الأبناء بالأمان العاطفي داخل أسرهم، وليس بالخوف أو القلق.
قد يكون العالم قد تغير، لكن دور الأسرة في التربية لا يزال أساسياً، وإن كان يحتاج إلى إعادة تعريف تتماشى مع الواقع الجديد، فالأسرة ليست مجرد مؤسسة اجتماعية، بل هي الحاضنة الأولى التي تشكل شخصية الطفل، وإذا تمكنت من التكيف مع العصر دون أن تفقد جوهرها، فستظل الركيزة الأساسية في بناء الأجيال القادمة، وستبقى المصدر الأول للقيم والتوجيه مهما تغيرت الظروف.
مقالات أخرى للكاتب




قد يعجبك ايضا







