كتاب «المفضَّليَّات» للضّبِّي هو أول كتاب موسوعي يُدوّن فيه الشعر العربي القديم، خاصة في فترات الجاهلية وصدر الإسلام، وقد صار مرجعية لا غنى عنها لكل الباحثين في أصول هذا الشعر وشعرائه، فلم يحدث أن جُمع هذا الصنف الأدبي في كتاب واحد قبله.
يقال: إن المفضل الضّبّي سمّى هذا المؤلف «كتاب الاختيارات»، ولكنه اشتهر باسم «المُفضّليات» لاحقاً، ارتباطاً باسم مُؤلّفه من ناحية، وليوحي بأن قارئه يستمتع فيه بعدد كبير من أفضل ما يمكن الاطلاع عليه من قصائد، جادت بها قرائح الشعراء العرب القدماء، والمُجيدين منهم بشكل خاص، معظمهم من الجاهلية، والبقية من المخضرمين، وشعراء صدر الإسلام، وهو ما يقدّم صورة حيّة للأساليب الشعرية في تلك الفترات، وتباينها، متأثرة بالبيئة اللغوية في مبناها، والاجتماعية والسياسية في مضامينها.
قصة تأليف
يُروى أن سبب تأليف هذه المدوّنة الشعرية، هو أنه عندما كان إبراهيم بن عبدالله بن الحسن بن الحسين بن علي مختفياً عند المفضل، بعد خروجه على الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، كان المفضّل يتركه ويخرج ليعود إليه، وفي إحدى المرات أراد الخروج عنه لبضعة أيام، فقال له إبراهيم: إنك عندما تخرج يضيق صدري، فأخرج لي شيئاً من كتبك أتفرّج به، فأخرج له المفضل كتباً من الشعر والأخبار، وغادره، فلما عاد المفضّل وجده قد عَلّم على سبعين قصيدة اختارها، وقد عُرف بذوقه الحسن في الشعر، فاستخرج المفضّلُ القصائد السبعين، وزاد عليها عشراً فأصبحت ثمانين قصيدة، وعندما قبض المنصور على إبراهيم والمفضّل، عفا عن الأخير، وكلّفه بتأديب ولده ووَلِيّ عهده المهدي، فقدّم المفضل لتلميذه القصائد الثمانين، فقرأها عليه، ثم قرأها الأصمعي بعد ذلك، فأقرّها وزاد في عدد قصائدها، ثم جاء آخرون بعد ذلك وزادوا.
أثر
وتضمّنت النسخة النهائية المتداولة منذ القدم لهذا الكتاب 130 قصيدة، يتراوح عدد أبيات كل واحدة منها ما بين 10 و108، ولم يورد المؤلّف من بينها لشاعر أكثر من ثلاث قصائد إلا نادراً، وهو ما يدل على أنه كان يختار أفضل الشعر.
واعتُبر هذا الكتاب نافذة على الحياة الجاهلية، لما يقدّمه من صورة واضحة عنها من خلال الأشعا، كما اعتبر مرجعاً مهماً للغة العربية في تلك الفترة، حيث يحوي العديد من الكلمات والتعابير التي لم تعد مستخدمة في العصر الحديث.
كل ذلك ترك الكتاب من خلاله أثراً مشهوداً في الأدب العربي، فاعتمد عليه العديد من العلماء والأدباء العرب، والمستشرقين، ولذلك صار من أهم مصادر الثقافة العربية عبر التاريخ.
توثيق
مما قيل عن أهمية هذا الكتاب، قول شوقي ضيف: «ولو لم يصلنا من الشعر الجاهلي سوى هذه المجموعة الموثقة، لأمكن وصف تقاليده وصفاً دقيقاً، فقد مثلت جوانب الحياة الجاهلية ودارت مع الأيام والأحداث، وعلاقات القبائل بعضها ببعض، وبملوك الحيرة والغساسنة، وانطبعت في كثير منها البيئة الجغرافية»، وقول علي الجندي في كتابه «في تاريخ الأدب الجاهلي»: إن «القصائد التي تتضمنها هذه المجموعة أصيلة، وأهل للثقة والاعتماد عليها».
نشر الكتاب في عدة طبعات، صدرت أولاها عن دار المعارف المصرية عام 1942، بتحقيق كل من أحمد محمد شاكر، وعبد السلام محمد هارون، وكان أول من شرح «المفضّليات» هو أبو محمد القاسم بن بشار الأنباري، وقد حقق الشرح ونشره المستشرق شارل ليال، وأصدرته مطبعة الآباء اليسوعيين في بيروت سنة 1920م.
إضاءة
مؤلف الكتاب هو المفضل بن محمد بن يعلى بن عامر بن سالم، المشهور ب «المفضّل الضَّبِّي»، الذي عاش ما بين 100ه/ 718م و168ه/ 785م، هو كوفي من رواة الشعر الثقاة، ولد في الكوفة ونشأ وترعرع فيها، وأخذ العِلم عن أكابر شيوخها، فكان لُغويّاً وعلّامة راوية للأخبار والآداب وأيام العرب، عاصر أواخر حقبة الدولة الأموية، وبدايات حقبة الدولة العباسية، فقَدِم إلى بغداد أيام هارون الرشيد، وانتقل إلى البصرة أيضاً، وكان واسع الثقافة، فروى القراءات والحديث عن عدة شيوخ، والتقى الأعراب وروى عنهم مشافهة، كما روى عنه الكثير من العلماء، من بينهم الكسائي والفرّاء، وقال عنه محمد بن سلام الجمحي: «أعلم من ورد علينا بالشعر وأصدقه المفضّل الضّبّي»، وله عدة مؤلفات أخرى، منها: «كتاب الألفاظ»، و«كتاب العروض»، و«كتاب الأمثال»، و«معاني الشِّعر».
قد يعجبك ايضا







