يكثر التفريق بين صنفين من القرّاء: قرّاء الكتب، وقرّاء وسائل التواصل الاجتماعي. تصنيف ينطوي على إعلاء من شأن الصنف الأول، وتقليل من شأن الصنف الثاني: قرّاء وسائل التواصل، بطريقة تربط الكتب بالجدية والعمق والرصانة وما إليها، فيما تقرن السطحية وربما حتى التفاهة بما ينشر على وسائل التواصل.
هذا التقسيم، وإن نشأ عن بعض ما ينشر على وسائل التواصل من مواد لا تغني ولا تسمن من جوع، وربما تعمم زيف الوعي في صفوف المتلقين، ينطوي على ظلم كبير للكثير مما ينشر على تلك الوسائل، بل يمكن القول إنه تقسيم تجاوزه الزمن، بالنظر للتحولات الكبيرة لا في عالم المعرفة وحدها، وإنما في طرق تلقيها أيضاً، ثم من قال إن كلّ الكتب، وبدون استثناء، تحمل الجاد والعميق والرصين، فما أكثر الكتب التي تندرج في عالم التفاهة، وهو أمر لم ينشأ اليوم فقط، حيث تقترن ظاهرة الكثير من الكتب الأكثر مبيعاً («بست سيلرز») بضعف المحتوى أو سطحيته، وإنما هو أمر قائم منذ أن ظهرت الكتب، فلم يبقَ في ذاكرة البشر منها، ومكث في الأرض، إلا ما حمل الوعي والمعرفة، فيما ذهب الزبد منها جفاءً.
لهذا يبدو ضرورياً الاحتكام إلى معيار مختلف لتقييم ما هو جاد وما هو سطحي من المحتوى، بصرف النظر عن الوسيط الذي ينقله، أكان كتاباً مطبوعاً أو إحدى وسائل التواصل المختلفة والمتعددة، فالوسيطان معاً يحملان الشيء ونقيضه، حتى وإن تميّزت المادة المحمولة على وسائل التواصل بالإيجاز والتكثيف، وهو أمور لا يتوفر عليها الكتاب في الغالب.
هناك أمر آخر لا يقلّ أهميةً محوره السؤال التالي: هل قلّ عدد قراء الكتب بسبب ظهور وسائل التواصل؟ سيذهب الكثيرون منا للإجابة بنعم، ولكن الأمر يقتضي بعض التقصي، فلا توجد معطيات إحصائية يعتدّ بها تجزم بذلك، وقد لا يكون صحيحاً أن انصراف الناس إلى تتبع وسائل التواصل الاجتماعي وحده ما صرف اهتمامهم عن قراءة الكتب، وعليه نقول إن هذه الوسائط بما لها من ميزات أتينا عليها أعلاه: الإيجاز، التكثيف، السرعة جلبت إلى دائرة تلقي المعرفة فئات جديدة غير شغوفة بالكتب ولا طاقة لها ولا صبر على قراءتها، ومهما كان مقدار المعرفة التي تتلقاها الفئات من محتوى وسائل التواصل محدوداً يبقى صحيحاً القول: قليل المعرفة خير من عدمها.
وكخاتمة، نقول: بوسع الكتّاب الذين عايشوا تجربة النشر في الصحافة قبل نشوء وسائل التواصل وبعدها، أن يلاحظوا أن كتلة إضافية ووازنة من القراء أتتهم من وسائل التواصل، لتضاف إلى كتلة قرائهم في الصحافة المطبوعة، وهي كتلة آخذة في التناقص مع تراجع دور الورقي لصالح الرقمي.
مقالات أخرى للكاتب




قد يعجبك ايضا







