الأبعاد الجَمالية لزيارة رئيس الدولة لإيطاليا

00:55 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. منصور جاسم الشامسي *

لزيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، إلى إيطاليا، مؤخراً، أبعادها التاريخية –الجَمالية – السياسية، ومَداها الواسع.
سُموّه زار «النطاق الإيطالي»، مؤخراً، وأسس لشراكة استراتيجية بين البلدين على الصعيد السياسي والاقتصادي والتقني والاستثماري والتجاري، وذَهَبَ لمدىً أبعد بملامسة جذور التقدم في العصر الحديث الذي بدأ بميلاد «عصر النهضة الإيطالية» في القرن السادس عشر، بمحتوياته الجَمالية. تكمن الأبعاد الجمالية في مسألة اختيار إيطاليا، لزيارتها، خاصة، في وقت التغيرات والتحولات، الحالي، بالعلاقات الدولية، لما يحتويه «الاختيار» من «حُسْن» و«عُمق» و«نَظَر»، وبالتالي، لما يُحْدِثه «الاختيار» من «تأثير» و«إلهام» و«اختلاقات» و«إيحاءات» و«اكتشافات» و«دلالات»، ومبعث على «التفكير التاريخي» وبإزاءه «التفكير الجَمالي»، ليقودنا، إلى تحقيق «كَمال مَعرفيٌ» يَفِيء إليه التأمل في رَسّم العمل السياسي والحكومي.
إيطاليا عاشت تجربة جمالية تاريخية، وسبق نهضوي، وخبرة عصر التنوير الفكرية والعلمية، وتطور مفهوم «الإتيكيت»، والفلسفة ودورها في توجيه الشعوب، وكانت بها عوالم جديدة تتفتح أمام الإنسان الموهوب، ونشأ بها «علم السياسة» الحديث، و«الفكر السياسي العالي»، و«علم الجَمال»، و«الفن»، والخَيال الخلاق، وفكرة الجمع والمزج بينها ببراعة فنية و«إبداع سياسي»، ولديها تصوير العالَم ورؤيته بشكل فني – جَمالي، وتقدير تكتنزه للثقافة العربية. إيطاليا، بهذا، قيمة تاريخية – جَمالية أرساها المفكرون والعلماء والأدباء والفلاسفة والفنانون، منذ 1500 ميلادي. لذا، غدا من الضروري، اليوم، أن يُدرك الناس ذلك المدّ التنويري النهضوي التاريخي، خاصة الباحثين عن بوصلة معرفية عريقة غنية تقود وتُعلم وتُهذب، وتُلهم، في تنظيم الفكر، والسلوك، وإدارة العمل الحكومي والسياسي، وفي أساليب الحياة، وصقل الإبداع، وللإجابة عن المستجدات والإشكاليات.
المؤرخ الإيطالي فرانكو فينتوري أقرّ بقوة التنوير بإيطاليا، واهتم بدراسة العلاقة القائمة بين «الفكر التنويري»، الذي كان ينتقل عبر الجرائد والرسائل والمنشورات والكُتب، و«المشهد السياسي». فالتنوير لم يكن مجرد حركة ذاتية فكرية وعقلانية بل ارتبط بمتغيرات سياسية واقتصادية على صعيد أوروبا، فالتنوير كان إيقاعاً عاماً في المجتمع وشمل الحركة السياسية والفكرية وانتشر.
«الثقافة» سِر النهضة الإيطالية التي قادت العالم في لحظة انعطاف كبرى بتاريخ البشرية عند نهاية القرون الوسطى، وقد بدأت بظاهرة الشغف بالكتُب وجمعها، وانتشرت المكتبات كمكتبة (دير سكان ماركو) في فلورنسا ومكتبة نابولي، وتم جمع أكبر عدد ممكن من الوثائق والمخطوطات، ونشأ «نظام الكاتالوجات» لتسهيل جمع الكتب والاطلاع عليها، وتأسست الأكاديميات الأدبية التي اهتمت بالأدب والتراث والفلسفة، وانتشرت «أشعار» «السونيته» بين الناس يتداولونها في المدن الإيطالية، في المقاهي والمجالس، وتدور نقاشات حولها، وهذا يحملني على الابتهاج بمعارض الكتب لدينا بالدولة، بالشارقة وأبوظبي، وغيرهما، والاهتمام بالشعر العربي بنمطيه الفصيح والنبطي، كونها مظاهر نهضوية تنويرية. كما برز في عصر النهضة مثقفون مؤثرون مثل الشاعر «مارسيليو» والفيلسوف «فيتشينو» وقد ترجموا آداباً يونانية ولاتينية، ونشأت «النزعة الإنسانية» حين التفّ عدد من المفكرين حول الشاعر «بيتراك» الذي قاد حركة دراسة النصوص القديمة وإحياء التراث اللغوي والأدبي اليوناني والروماني، فأثرت في الناس والحكومات.
«علم الجَمال» أثر في «السياسة» من خلال التأثير في واقع العمل الحكومي. مثلاً، من المؤلفات الإيطالية النهضوية «رجال البلاط» للكاتب كاستيليوني، وهو كتاب في «أدب الأخلاق» كتبه في 1508 تحدث فيه عن «صفات رجل البلاط المثالي» و«سيدة البلاط المثالية» وبلغة عصرنا فهو يقصد «الصفات المثالية لموظفي الحكومة» – كالبراعة، والتواضع، واللياقة البدنية اللطيفة، والبلاغة، والسلوك المُهذب، والعقل الهادئ، والصوت الجيد (كلمات جميلة وأنيقة وشجاعة)، إضافة إلى الإيماءات المناسبة، وأن تكون لدى «رجل البلاط» – أي «موظف الحكومة» و«سيدة البلاط» – أي «موظفة الحكومة» معرفة جيدة بالعلوم الإنسانية «الكلاسيكيات» والفنون الجميلة.
بدأت المدن الإيطالية بالتحول إلى مدن تعليمية وعلمية بحثية وفنية ومراكز ثقافية وعُمرانية ملهمة – وهذه التأثيرات نلمسها في مدن دولة الإمارات التي تتطور بالاتجاه «النهضوي» «التنويري». مثال: مدينة «فلورنسا» «متحف تاريخي» تُراكم جمال «العمران» وجمال «الفكر» وقد ضمت «دانتي» بأشعاره، و«غاليليو» ببحوثه العلمية الفلكية، وحيث تفتقت عبقريات مايكل آنجيلو ودوناتيلّو وبوكاتشيو وبرونلسكي وبوتيتشلّي وليوناردو دا فينشي، ونشأت بها «المدرسة النقدية» ذات الإنتاج التاريخي الضخم. كما أن تأثيرات المفكرين والعلماء والأدباء والشعراء النهضويين التنويريين وصلت إلى البابوية التي كانت تعاني ترهلاً حوالي عام 1417 حتى وصل «الباحث الإنساني» إينياس سيلفيوس بيكولوميني لمركز (البابوية) فأصبح البابا بيوس الثاني في العام 1458 فأحيا وأصلح المؤسسة الدينية فانتشرت الروح النهضوية والفلسفية في الفاتيكان. وحدثت تغييرات اجتماعية واقتصادية في المجتمع فضلاً عن تنمية ثقافية مجتمعية.
إيطاليا بها شعور عام قوي بالإحياء (Renaissanse)، لهذا تراها مليئة بالآثار كالبيوت والمباني الثمينة والطرقات والوثائق والمخطوطات، تحافظ عليها. وفي تقاليد الإمارات، حالياً، هذه «الروح التاريخية» نلمسها في المحافظة على الأثر والهوية الوطنية. وتنافس المدن الإيطالية التاريخي في الفكر والفن واشتغالها بالتجارة سِر نهضتها، وهذا مصدر إلهام، ومدائن الإمارات تسير بهذا الاتجاه النهضوي التنويري. كما نمت «روح البحث العلمي» و«الروح الموضوعية» في إيطاليا، فنشأ فكر جديد يهدف للوصول للحقيقة ويحفظ لعِلم السياسة جوهره الجَمَالي.

[email protected]
* باحث علمي – تنمية بشرية

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"