علي قباجة
من نافلة القول، إن أوروبا باتت مكشوفة على مصراعيها، بعد تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب من «الناتو»، بسبب الإنفاق غير المتناسب بين بلاده وبقية الدول المنضوية في الحلف، بجانب إعلانه صراحة أنه إذا لم تدفع دول شمال الأطلسي ما يكفي من المال للدفاع عن نفسها، فإن الولايات المتحدة لن تدافع عنها، ما يعني أن «الناتو» بدأ يفقد بريقه، الأمر الذي دفع العديد من القادة الأوروبيين إلى البحث عن خيارات أخرى بعد تخلخل المظلة الأمريكية، خصوصاً أنها تواجه أيضاً حرباً روسية في قلبها، تزامناً مع إصرار واشنطن على إنهاء الحرب مهما كان الثمن، وهو ما ترفضه القارة بمعظمها.
الأصوات تعالت مؤخراً بين الجانبين الأمريكي والأوروبي، وبدأت الحدة تغلب على العلاقات، وأصبحت العديد من دول القارة العجوز تنظر بجدية إلى إنشاء تحالف عسكري ممول بالكامل منها بعيداً عن الهيمنة الأمريكية، وأيضاً تعويض كييف عن الدعم الأمريكي للاستمرار بحربها ضد روسيا، على اعتقاد أن انتصار موسكو في المعركة يعني تمددها إلى بقية الدول، وهذا لا يمكن قبوله بأي حال، لذا فإن دعوات ترامب إلى السلام قوبلت برفض شديد، لأن السلام الترامبي يعني وقفاً لإطلاق النار على الطريقة الروسية، مع فقدان أوكرانيا لسياداتها، وهو ما يفتح شهية الكرملين للمزيد.
لا خيارات لأوروبا أمام التقلبات الأمريكية، سوى الانتظار أربع سنوات حتى تزول غيمة ترامب، وبهذا ستبقى القارة مرهونة بكل إدارة جديدة، حيث لا تملك أفقاً سياسياً ثابتاً خاصاً بها، وفي الوقت ذاته لا يمكنها الانفصال عن المظلة الأمريكية بتعويض وجودها في القارة بقوات فاعلة منها وتمويلها ذاتياً من خلال زيادة الإنفاق الدفاعي من الناتج القومي، أو عقد تحالفات جديدة مع الصين والاتفاق مع روسيا على تقسيم المصالح، وهذا الخيار أشدها مرارة، إذ أن الخلافات مع واشنطن بنظر الأوروبيين لا ترقى إلى مستوى اللجوء إلى هذا الخيار.
أوروبا بدأت بالفعل بالدعوة إلى تكتل أوروبي مستقل مستقبلاً، واللافت أن هذه الدعوة تقودها فرنسا التي تحاول إقناع الأوروبيين أن بإمكانها تزعم القارة وأن تكون بديلاً لأمريكا، وقد وجهت هذه الدعوة حتى قبل تسيد ترامب البيت الأبيض، وقامت بخطوات عدة لتحقيق ذلك المأرب، منها تشكيل جيش أوروبي مستقل وإرسال قوات أوروبية إلى أوكرانيا..
أوروبا أمام معضلة حقيقية، فهي خليط من حكومات لها توجهات متباينة، وأي توجه لبناء اتحاد جديد سيلقى صعوبة كبيرة، وفي الوقت ذاته فإنها بين فكي كماشة روسيا وأمريكا، لذا فإن التحديات المستقبلية ستكون مؤلمة للقارة التي فقدت قوتها وأصبحت مهددة بأن تكون لاعباً ثانوياً على مسرح الكبار.