عادي

أسئلة القيم الصعبة (1)

23:15 مساء
قراءة 3 دقائق
يوسف الحسن

د. يوسف الحسن

تشكل منظومة القيم مكوناً أساسياً في ثقافة أي مجتمع، حيث تحكم سلوك أفراده، وتنظم علاقاتهم بالأشياء المادية وغير المادية من حولهم، كما تنظم علاقة الفرد بينه وبين نفسه، وبينه وبين الآخرين وبين النظام ومؤسساته الرسمية والأهلية.
عادة ما تتسم هذه المنظومة بالديناميكية والتفاعل بين أجزائها، وتتأثر بمعارف الفرد وخبراته، وإطاره الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يعيش فيه، وتشكل في نهاية المطاف مؤشراً رئيسياً لنوعية الحياة. وفي الوقت نفسه، يستمد المجتمع من منظومة القيم السائدة التوجيه والإرشاد عند وضع مشاريعه التنموية والاجتماعية والتربوية وغيرها.
من هنا، تبرز أهمية معرفة طبيعة هذه المنظومة القيمية السائدة، وترتيب نسقها، وستكون برامج التطوير والتربية والثقافة قاصرة إذا ما وُضعت من غير معرفة حقيقية لهذه المنظومة، والوقوف على سماتها، وتفاعلاتها وتغيراتها، والإيجابي منها والسلبي.
لا يتم ذلك بالتخمينات، وإنما بالدراسات الميدانية والبحوث العلمية، والتي توفر إجابات رشيدة على أسئلة القيم الصعبة.
وأذكر دراسة ميدانية أجريتها قبل عقدين من الزمان حول منظومة القيم لدى طلبة الإمارات في المرحلة الثانوية الدراسية، وهي مرحلة المراهقة التي تميز الجيل الشاب بقدرته على اكتساب المهارات والخبرات، وتَمَثُل القيم في المناخ الثقافي المحيط، واعتناقها أو رفضها، بما ينبني على ذلك في المستقبل من تصورات ومفاهيم تحكم السلوك إلى حد كبير، وقد نشرت ندوة الثقافة والعلوم في دبي نتائج هذه الدراسة الميدانية في كتاب عام 2004.
إن فهم البناء القيمي لهذه الشريحة من الشباب والفتيات خطوة ضرورية نحو فهم مواقفهم من الحياة والمجتمع والآخر، والسياسات والقضايا المركزية، ومعرفة اختياراتهم المستقبلية ودورهم في عملية تطوير المجتمع وتنميته الشاملة والمستدامة.
وأذكر أن نتائج الدراسة الميدانية حينذاك بينَّت أن قيم التوجه الأخلاقي والديني قد اعتلت أعلى موقع في سلم القيم، تليها القيم ذات التوجه الاجتماعي، ومن بعدها قيم التوجه نحو الإنجاز والخصوصية الاستقلالية والعمل.
وقد احتلت «القيم الترويجية والمادية» آخر درجتين في السلم القيمي.
وتناولنا في هذه الدراسة الميدانية قياس عدد من القيم العامة مثل القيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية والمادية والعلمية والترفيهية، بجانب بعض القيم الفرعية، الأكثر ارتباطاً بفترة المراهقة، مثل: الصداقة والصدق والتسامح، والإتقان والابتكار والأمان والكسب والترفيه والاعتماد على النفس...الخ.
أستشعر، ومعي كثيرون في المجتمع، الحاجة لمعالجة موضوع القيم بين جيل جديد يجلس اليوم على مقاعد الدراسة، ذكوراً وإناثاً، في ظل متغيرات ومعطيات اجتماعية وثقافية واقتصادية، وتحولات عميقة إثر تداعيات ثورات الاتصال والمعلومات المتسارعة، وعصر الصورة والإنترنت والذكاء الاصطناعي، وتراجع أدوار المؤسسات التقليدية للتنشئة من أسرة ومدرسة.
إن قياس نسق القيم وترتيبه ليس مسألة مستحيلة، رغم أنها صعبة، وتحتاج إلى جهود علمية دؤوبة، باعتبار أن الظواهر القيمية المستجدة معقدة ومتنوعة بصورة تتطلب الحذر عند محاولة تفسيرها، وأن ظواهر جديدة تفشَّت في مجتمعاتنا بفعل مقتضيات العولمة وتوابعها المتعلقة بالسلوك الإنساني في مختلف أشكاله ومظاهره، فضلاً عن محاولاتنا المزاوجة بين منظومة قيم موروثة (الأصالة)، ومنظومة قيمية انتقلت إلينا في سياق صيرورة التحولات المجتمعية (التحديث).
عدت إلى شيء قرأته قبل سنوات أثناء إعدادي لكتابي المعنون «قلق القيم: مجتمعات الخليج العربي نموذجاً» عن القديس الكاثوليكي توما الإكويني المتوفى في عام 1274م، والذي ترك تأثيراً كبيراً في الفلسفة الغربية، وقد بشّر بفكرة مفادها أن «الحكمة تأتي من أي مكان بمعزل عن أي عقيدة دينية». وتقول الحكاية: كان الإكويني راهباً في الدير مع سائر زملائه الرهبان وقد بدا لزملائه وكأنه، لبساطته وتواضعه، ساذجاً أبله، فوقف بعضهم إلى جوار النافذة ثم نادوه بعد أن تصنَّعوا الدهشة على وجوههم: وقالوا: «تعال يا توما، وانظر إلى السماء، لترى هذه الأبقار الطائرة في الفضاء»... فأسرع نحوهم توما لينظر فضحك منه الزملاء ساخرين، وهنا التفت إليهم وقد اعتراه الجد وقال: «مم تسخرون؟ لقد كان الأهون عندي أن أتصور أبقاراً تطير في أجواء السماء، من أن أتصور رهباناً يكذبون».
لم تكن سذاجة، تلك التي بدت للرهبان زملاء توما، وإنما هي في حقيقتها اختلاف بينه وبينهم في ترتيب القيم.. أي قيمة لها منزلة أعلى، وأي قيمة لها منزلة أدنى، فالرهبان يرونه ساذجاً، وهو يراهم مستهترين بالقيمة الأخلاقية.
التحولات القيمية بحاجة إلى قياس علمي.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"