عادي

روائع التراث الإسلامي

23:24 مساء
قراءة 4 دقائق

جاء في «السيرة النبوية» لابن هشام أنه لَمَّا علم النبي صلى الله عليه وسلم أن قريشاً خرجت لحربه وقتاله في بدر، وأن معها مِنَ العُدة والعتاد ما تخوض به أشرس حرب، وأن عددهم ثلاثة أضعاف عدد أصحابه، استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه للخروج إليهم، فأشار المهاجرون بالمضي لقتال قريش، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يطّلع على موقف الأنصار، وظل يردد: «أشيروا عليَّ أيها الناس»، فأدرك سعد بن عُبادة مُراد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إيانا تريد يا رسول الله؟ قد آمنا بك وصدَّقناك، وشهدنا أن ما جئتَ به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامضِ يا رسول الله لما أردْتَ، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، لا يتخلف منا رَجل واحد، وما نَكْرَه أن تلقى بنا عدونا، إنا لصُبُر عند الحرب صُدُق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسِر بنا على بركة الله. فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونَشَّطه ذلك ثم قال: «سيروا على بركة الله وأبشروا، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، واللهِ لكأني أنظر الآن إلى مصارع القوم غداً».
كان عدد المسلمين في بدر ثلاثمئة مقاتل في حين كان عدد عدوهم من كفار قريش أكثر من 900 مقاتل، لكن الله أمدهم بمدد من عنده، قال تعالى:
«إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ.
وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (الأنفال: 9 و10).
بالشجاعة والإقدام فتح المسلمون الأوائل البلاد، وحكموا العباد، وأرسوا دعائم الدين الحنيف، وحثَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على التحلي بالشجاعة والقوة، فقال: «ثلاثة يُحبُّهم الله عزَّ وجلَّ، وذَكَر منهم: ورجلٌ كان في سريَّة، فَلقوا العدو، فهُزِموا، فأقبَل بصدره، حتى يُقتلَ، أو يَفتحَ الله له»، وقال: «المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف». وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر الناس شجاعة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولولا أن أشقَ على أمتي ما قعدتُ خلف سرية، ولوددتُ أني أُقْتَل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أُقْتَل ثم أحيا، ثم أُقْتَل». وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ليلةً فخرجوا نحو الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استبرأ الخبر وهو على فرس وفي عنقه السيف وهو يقول: «لم تُراعُوا، لم تُراعُوا»، أي: لا تفزعوا، فليس هناك ما يَضرُّكم.
من القصص الرائعة في الشجاعة التي يُضرب بها المثل، إقدام الصغار على المشاركة في الحرب يوم بدر، فها هو عمير بن أبي وقاص لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره، يدخل في صفوف الجيش لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرده لصغر سنه، فيبكي عمير، فيوافق الرسول على مشاركته. يقول أخوه سعد بن أبي وقاص: رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر يتوارى، فقلت: ما لك يا أخي؟ قال: إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني ويردني، وأنا أحب الخروج لعل الله أن يرزقني الشهادة، وقد قُتِل بالفعل وهو ابن ست عشرة سنة، فكان أصغر شهداء بدر.
هذه قصة أخرى لغلامَين صغيرين من الأنصار يشاركان بشجاعة في غزوة بدر، ويُبليان بلاءً حسناً، يقول عبد الرحمن بن عوف: «بينا أنا واقف في الصف يوم بدر، فنظرتُ عن يميني وعن شمالي، فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما (هما: معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء)، تمنَّيتُ أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما فقال: يا عمِّ، هل تعرف أبا جهل؟ قلتُ: نعم، ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أُخبِرتُ أنه يَسُبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده، لئن رأيته لا يُفارِق سوادي سوادَه، حتى يموت الأعجلُ منا، فتعجَّبتُ لذلك، فغمزني الآخر، فقال لي مِثْلها، فلم أَنشَب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس، قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني. فابتدَراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرَفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبَراه. فقال: «أيكما قتَله؟»، قال كلُّ واحد منهما: أنا قتلتُه، فقال: «هل مسحتما سيفيكما؟»، قالا: لا، فنظر في السيفيْن فقال: «كلاكما قتَله».
ليس أدل على شجاعة المسلمين الأوائل من خوضهم الحرب لنصرة دين الله ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رغم قلة عددهم وعتادهم مقارنة بعدد العدو وعتاده، وكان ذلك في غزوة بدر الكبرى، في السابع عشر من رمضان في العام الثاني من الهجرة النبوية، والتي نزل فيها قول الله تعالى: «وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (آل عمران: 123).
قصة أخرى من قصص الشجاعة والإقدام يوم بدر، يرويها أنس بن مالك، رضي الله عنه، فيقول: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بدر، وجاء المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقدمن أحد منكم إلى شيء حتى أكون أنا دونه» (أمامه)، فدنا المشركون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض»، قال: يقول عمير بن الحمام الأنصاري: يا رسول الله، جنة عرضها السماوات والأرض؟ قال: نعم، قال: بخٍ بخٍ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يحملك على قولك بخٍ بخٍ»؟ قال: لا والله يا رسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: «فإنك من أهلها»، فأخرج تمرات من قرنه (جعبة السهام) فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، قال: فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قُتِل.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"