عبدالله السويجي
المعرفة تبدأ بسؤال وتساؤل، السؤال للآخر والتساؤل للذات، والآخر متنوعٌ ومتعدد الثقافات والمرجعيات والطوائف والمذاهب، والذات الموضوعية تحمل قبول هذا التعدّد أو الحوار معه على أقل تقدير، وهذه الأخيرة لا تتوفّر إلا في الإنسان المتفتّح واسع البصر والبصيرة، بهذا يكون الحوار مع الذات هو محاورة الآخر. ويمكن الكتابة في هذا الشأن، أي في الذات والآخر، صفحات وصفحات، والحوار الأكثر هدوءاً هو المائل نحو التأمل والاستغراق فيه، هو عصف أفكار يتّسم بالمصداقية ونقاء الضمير والغيرة الوطنية.
ولا بد من الإشارة هنا إلى مسألة غاية في الأهمية، وهي أن اختيار الذات أبعد ما يكون عن الأنانية والنرجسية، فمحور الحديث ليس ذاتياً طالما أن الحوار سيكون مع المشهد الشامل. ويختلف الأمر عن البرامج التلفزيونية التي تطرح محوراً وتستضيف شخصيات متعدّدة المشارب، لأن المُحاور يناقش الأمر مع «ذوات» تحمل كلٌ منها فكراً مقتنعة به وغير مستعدة لقبول الآخر، لهذا سيتحول الحوار سريعاً إلى حوار بالأيدي والألفاظ غير اللائقة، لسبب بسيط هو أن الحوار يُشخصن، فتثور ثائرة «الذوات»، ونصبح أمام مشهد شبيه بالواقع المنقسم على ذاته، ويتصارع أطرافه بالحديد والنار، الذي لا يؤدي إلى نتيجة أو رؤية أو برنامج عمل. ومن المؤسف أن يكون معيار البرنامج الناجح، تضمّنه لكم هائل من الصراخ والشتائم والآراء المتطرّفة. لهذا فإن عصف الأفكار الذاتي الموضوعي، بعيداً عن وسيلة إعلامية تستفزّ الآخر، هو أفضل الحلول.
لم أهدف من وراء هذه المقدّمة، التبرير للتساؤل والبعد عن السؤال، وإنما تحريض الآخر وتشجيعه على محاورة الذات من دون عصبية أو تمييز، ويعترف بوجود آخرين يشاركونه المكان، الوطن، الدولة، الحياة. وسأطرح مباشرة التساؤل التالي: هل ما يحدث في العالم العربي منذ عقد ونصف، يقوم على منظومة فكرية واضحة المعالم والأهداف والرؤى والاستراتيجيات؟ هل كانت «ثورات» تعتمد على رؤى؟ وما هي هذه الرؤى، ومن هم أصحابها والمبشرون بها؟ أم أن هذه «الثورات» كانت جماهيرية تلقائية أشبه بالعصيان المدني تسعى إلى إسقاط الأنظمة وتحسين ظروف الحياة؟ أم أن ما شهدته وتشهده الساحات في العالم العربي، كان ولا يزال، بأفكار مستوردة من الخارج؟ كما حدث في السابق مع الدول التي شهدت انقلابات، ومع الثورات التي اعتمدت أفكاراً ليست من البيئة العربية، ثقافياً ودينياً وإنسانياً.
ولو دقّقنا النظر سنجد أن «الثورات» لم تكن شعبية تلقائية، ولم تكن بالتالي عصياناً مدنياً، بل تحوّلت بسرعة فائقة إلى لغة السلاح. ولم تسع إلى تحسين ظروف الحياة لأنها حوّلت حياة ملايين البشر إلى جحيم، بل اتكأت تلك «الثورات» أو استغلت توق الناس لحياة أفضل، ثم قادتهم إلى البؤس، فتشرذمت الشعوب وتقسّمت الأوطان وانقسمت، وصار طموح الناس الهجرة والفرار من الدمار والموت، للنجاة بأنفسهم وعائلاتهم وبناء مستقبل سليم في الدول الأجنبية! ومن جانب آخر لم تعتمد هذه «الثورات» على فكرٍ واضح ومحدّد، ولم يكن خلفها قادة مفكرون وفلاسفة لديهم تصوراتهم الوطنية والإنسانية، والدليل ظهور عشرات الزعماء والأمراء والجنرالات و«الأبوات» وأصحاب المذاهب والعقائد والطرق والأعراق والهويات، والدليل الآخر، هو أن الساحات التي شهدت استقراراً سياسياً، قادها رجال وشخصيات من الأنظمة القديمة، والتساؤل المرير الذي يطرح ذاته على الذات، ماذا كان الهدف من وراء تلك «الثورات» التي كانت أبعد ما تكون عن الثورات.
والثورات في «علم التغيير» لها منطق وأهداف ومخرجات مختلفة عما حدث ويحدث في العالم العربي، كما أنها تفرز رموزها الشعبيين الذين تجتمع حولهم ويجمع عليهم الناس، وهذا أيضاً ما لم يحدث حتى الآن، بل المجتمعات تعيد إنتاج الشخوص ذاتها، وأساليب الإدارة ذاتها، ولم يتحصّل الناس إلا على الفقر والغلاء وعدم الاستقرار وغياب الآمن والآمان. بل إن الظاهرة الأكثر غرابة، أن الساحات شهدت ولادة مفاهيم مجتمعية جديدة، وقيم جديدة، سلبية، فانتشرت العصابات، وساد مفهوم الغاب وأصبح القوي يأكل الضعيف. والتجارب الديمقراطية التي تدّعيها بعض الساحات، هي تجارب فاشلة بامتياز، وعلى صعيد السياسات الخارجية، إن ما كانت ترفضه تلك الأنظمة صارت تقبله تحت وطأة الحاجة، وأهمها الحاجة إلى الأمن والاستقرار، بل وصل الأمر ببعضها، الحاجة إلى الغذاء لتبقى على قيد الحياة، وهو حال ينتقص من إنسانية الإنسان.
لم يظهر علينا أحد «القادة» المشاركين في «الثورات»، حاملي لواء التغيير وإسقاط الدكتاتوريات، وصارحنا بأخطائه وفشل مشاريعه «الثورية»، ولم يتجرّأ أحد على التفكير بصوت عالٍ ناقداً لذاته، ليحدثنا عن أسباب الفشل الذريع والدمار المريع، بل لم يكتب أحد عن تجربته، لا من القادة الميدانيين، ولا من المنظّرين السياسيين الذي أشبعونا فلسفات وتنظيرات خلال «الثورات».
لم يظهر أحد، لأنهم كما يبدو، يظهرون ويختفون وفق تعليمات، ويتحدّثون ويصمتون بتعليمات، ما يعني أن «الثورات» لم تنطلق من أبناء الشعوب الفقيرة والمظلومة، الذين كانوا وقودها، ولا يزالون.
لا أدري إن كنت قد قمت بعصف أفكار واتّسمت بالموضوعية، أم أنني انحزت إلى توجّه معيّن، ولكن حسبي أنني قلق على مستقبل شعوب كثيرة في المنطقة، بعضها يداوي جراحه الآن، وبعضها لا يزال منشغلاً بحرب أهلية.. والحديث ذو شجون، والعصف الذهني لا ينتهي..