يرى مراقبون عسكريون، أن إقالة رئيس أركان الجيش الأوكراني أناتولي بارغيليفيتش، كان نتيجة مباشرة للانسحاب المخيب من منطقة كورسك، فبعد المغامرة العسكرية للسيطرة على المنطقة الحدودية الروسية، بهدف تخفيف الضغط على الجبهة الشرقية، واستخدامها كورقة مساومة تفاوضية، باتت القوات الأوكرانية تكافح بشدة لمنع القوات الروسية من التوغل في سومي الأوكرانية، وبالتالي فتح جبهة حرب جديدة داخل الأراضي الأوكرانية.
ومع انسحاب القوات الأوكرانية من كورسك الروسية بعد تكبدها خسائر فادحة، تكشفت تداعيات ما وصف بـ«المقامرة» غير المحسوبة، التي بدأت قبل سبعة أشهر، حيث أضحت أوكرانيا تواجه ضغوطاً على كافة الصعد، سواء العسكرية أو الدبلوماسية، فبينما تدخل روسيا المفاوضات من موقع قوة، تكافح كييف لوقف القتال، وربما في سبيل ذلك ستقدم المزيد من التنازلات.
ـ تفاصيل انسحاب فوضوي ـ
وانسحبت القوات الأوكرانية بالكامل تقريباً من منطقة كورسك الروسية، فيما وصف جنود أوكرانيون على الجبهة ما حدث بأنه شابه في بعض الأحيان الفوضى، خصوصاً بعد أن اقتحمت القوات الروسية صفوفهم وأجبرتهم على التراجع إلى شريط ضيق على طول الحدود.
ويقول أحد الجنود إنه بحلول الوقت الذي انسحبت فيه إحدى فصائل الهجوم الأوكرانية من موقعها قبل أقل من أسبوع، كانت جميع مركباتها قد دُمرت، وطاردتها الطائرات المسيرة ليلاً ونهاراً، وكانت ذخيرتها على وشك النفاد.
ويكشف قائد الوحدة الأوكرانية أن القوات الروسية كانت تضيق الخناق من جميع الاتجاهات، ما دفعهم إلى الانسحاب، كما قال إن وحدته استغرقت يومين لقطع مسافة تزيد على 12 ميلاً سيراً على الأقدام من مواقعها بالقرب من قرية كازاشيا لوكنيا الروسية إلى الحدود الأوكرانية.
ويقول باسي باروينن، المحلل العسكري في مجموعة بلاك بيرد ومقرها فنلندا، إنه في ذروة الهجوم، سيطرت القوات الأوكرانية على نحو 500 ميل مربع من الأراضي الروسية، لكن الآن لم يعد لها وجود سوى في نحو 30 ميلاً مربعاً فقط على طول الحدود الروسية الأوكرانية، وأكد أن: «نهاية المعركة آتية».
ويقول جنود أوكرانيون إنهم أحرقوا معداتهم الخاصة لمنع وقوعها في أيدي الروس قبل انطلاقهم سيراً على الأقدام. كما كشفوا أنه في 10 مارس/آذار، صدر أمر لبعض الوحدات بالانسحاب من سودجا، كما كشف أحدهم: «كان الأمر مزيجاً من الانسحاب المنظم والفوضوي. وقد أثرت عوامل مختلفة في طبيعة الانسحاب، ومن بينها: الإرهاق، والأوامر الجيدة أو السيئة من القادة، وسوء التواصل وقلة التنسيق».
ـ منع التوغل الروسي ـ
وأفاد جنود أوكرانيون باستمرار القتال العنيف عند هذا الشريط الصغير، لكن لم يعد هدفه السيطرة على الأراضي الروسية، بل محاولة منع القوات الروسية من التدفق إلى منطقة سومي الأوكرانية وفتح جبهة جديدة في الحرب، وأكدوا أنهم يحاولون إقامة مواقع دفاعية قوية على طول خطوط التلال على الجانب الروسي من الحدود.
ويكشف أندري، وهو ضابط مخابرات أوكراني يقاتل في كورسك، عن الأمر بصراحة أكبر قائلاً، لصحيفة نيويورك تايمز، «عملية كورسك انتهت عملياً. الآن نحن بحاجة إلى استقرار الوضع».
ـ عوامل حسمت معارك كورسك ـ
العوامل الحاسمة التي أدت إلى إنهاء معركة كورسك، تمثلت في قصف القوات الروسية لخطوط الإمداد الأوكرانية، كما بدأت في قطع طرق الهروب، كما يرى مراقبون غربيون أن القوات الكورية الشمالية تحسنت قدراتها في المعارك بعد فترة، إضافة إلى ذلك وفي لحظة حاسمة، تم تعليق الدعم الأمريكي لأوكرانيا، بما في ذلك تبادل المعلومات الاستخباراتية.
ورغم إرسال أوكرانيا بعضاً من أكثر ألويتها خبرةً إلى كورسك، فإن أشهراً من الهجمات المتواصلة التي شنتها القوات الروسية وآلاف الجنود الذين يقاتلون ألحقوا خسائر متزايدة بالقوات الأوكرانية، وقال قائد فصيل أوكراني: «نفذ العديد منهم مناورات تكتيكية ذكية للغاية».

ومنتصف الشهر الماضي، كانت القوات الروسية قد تقدمت إلى مسافة خمسة أميال من طرق الإمداد الرئيسية لأوكرانيا، حيث منطقة سودزا، ما سمح لها باستهداف الطرق بأسراب من الطائرات المسيرة، العديد منها يعمل بكابلات ألياف بصرية فائقة الدقة، وبالتالي كانت محصنة ضد التشويش، حيث تم استخدام هذه المسيرات لنصب كمائن قاتلة.
ويقول أحد الجنود الأوكرانيين، وهو مقاتل في قوات العمليات الخاصة: «كانت طائراتهم المسيرة تهبط بالقرب من طرق الإمداد الرئيسية وتنتظر مرور هدف»، فيما أضاف جنود أوكرانيون أنها كانت أيضًا تضرب متفجرات مزروعة مسبقاً لتدمير الجسور في كورسك، في محاولة لتصعيب انسحاب القوات الأوكرانية.
كما هاجمت الطائرات الحربية الروسية الجسور، وفي إحدى الحالات أسقطت قنبلة موجهة تزن 6000 رطل لقطع أحد «شرايين الإمداد الرئيسية»، وفقاً لجنود أوكرانيين ومحللين عسكريين، وأكد أرتيم، وهو قائد لواء أوكراني رفيع المستوى، أن تدمير هذه الجسور كان أحد أهم الأسباب التي دفعت قواته إلى التخلي عن مواقعها فجأةً في الأسابيع الأخيرة.
ـ لحظة الاختراق المذهلة ـ
ويبدو أن سيطرة أوكرانيا على كورسك كانت في خطر بالفعل عندما أعلنت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تعليق المساعدات العسكرية وتبادل المعلومات الاستخباراتية في 3 مارس/آذار، ويقول ضابط مخابرات أوكراني إن «الفقدان المفاجئ للمعلومات الاستخباراتية الأمريكية اللازمة للاستهداف الدقيق فاقم الصعوبات»، حيث توقفت على إثر ذلك قاذفات الصواريخ المتعددة الأمريكية الصنع المعروفة باسم هيمارس عن العمل. ويكشف أنه: «لم يكن بإمكاننا السماح بإطلاق صواريخ باهظة الثمن على الهدف الخطأ».
ثم في الثامن من مارس/آذار الجاري، حققت القوات الروسية اختراقاً مؤثراً، حيث تسللت خلف الخطوط الأوكرانية سيراً على الأقدام لأميال عبر خط أنابيب غاز مهجور لشن هجوم مفاجئ، ووصفت وسائل الإعلام الروسية العملية بأنها بطولية، رغم الزعم بوقوع وفيات كثيرة بسبب غاز الميثان المتبقي في خط الأنابيب.
ويشير محللون عسكريون إلى أن هذه العملية تسببت في إرباك وفوضى عارمة خلف الخطوط الأوكرانية، ما دفعها على الأرجح إلى البدء في الانسحاب، واعترف قادة أوكران بأن «الروس تفوقوا عليهم، وقال أحدهم:»كان هناك القليل من الذعر«، ومع تراجع القوات الأوكرانية على طول خطوط دفاعية محددة، واصلت القوات الروسية تقدمها نحو سودجا، وازدادت وتيرة الهجمات.
ونظراً للتموقع الروسي الاستراتيجي في ساحة المعركة، كان من شأن الإخلاء الأوكراني بالمركبات أن يجعلها هدفاً سهلاً، وفقاً للمحللين. كما أن المركبات العسكرية المدمرة المنتشرة على الطرق شكلت عقبات أمام الانسحاب، ولهذا السبب، تم جزء كبير من الانسحاب سيرًا على الأقدام، وفقاً لسيرهي هرابسكي، المحلل العسكري والعقيد السابق في الجيش الأوكراني.
وفي حين لم تتطرق هيئة الأركان العامة للجيش الأوكراني مباشرةً إلى استيلاء روسيا على سودجا في منطقة كورسك، فإنها نشرت خريطة لساحة المعركة تُظهر البلدة خارج الأراضي التي تسيطر عليها، والتي تقلصت إلى شريط ضيق من الأرض.
ـ مكاسب استراتيجية ـ
ونظر بعض المحللين إلى عملية كورسك على أنها مقامرة غير ضرورية، إذ إأنها أثقلت كاهل القوات الأوكرانية، وأدت إلى خسائر فادحة في وقت كانت فيه تكافح بالفعل للدفاع عن خط جبهة طويل في داخل أوكرانيا، لكنها كانت تأمل أن تكون الأراضي التي تحتلها هناك ورقة ضغط في أي مفاوضات لوقف إطلاق النار.
لكن الآن يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستغل الانسحاب الأوكراني لمحاولة تعزيز موقفه في المحادثات مع إدارة ترامب بشأن هدنة الـ30 يوماً التي واقفت عليها كييف.
ومع محادثات بوتين وترامب، تسعى الولايات المتحدة للحصول على دعم روسيا لمقترح وقف إطلاق النار لمدة 30 يوماً، وأكد الرئيس الأمريكي أن الأمر يسير على ما يرام مع الكرملين. وأشار إلى أنه جرت بالفعل مناقشات حول تقسيم الأصول، بما في ذلك الأراضي ومحطات الطاقة. واستطرد بالقول:«سنتحدث عن الأراضي. سنتحدث عن محطات الطاقة. أعتقد أن الكثير منها قد نوقش باستفاضة من قبل الجانبين، أوكرانيا وروسيا».
وفي وقت سابق، صرح بوتين أن روسيا لن توافق على وقف إطلاق النار إلا إذا أدى إلى سلام طويل الأمد، ملمحاً إلى شروط مثل منع أوكرانيا من تلقي المساعدات العسكرية الأمريكية، أو تعبئة قوات جديدة. كما تساءل عن كيفية تطبيق هذا الهدنة، وكذلك طلب تخلي كييف عن خططها للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو).
كما رفضت موسكو مقترحات الدول الغربية بنشر قوات حفظ سلام أجنبية في أوكرانيا كضمان لأمنها على المدى الطويل، ولا يزال من غير الواضح ما هي الضمانات الأمنية التي ستحصل عليها أوكرانيا لحماية نفسها من الهجمات المستقبلية.
