عادي

«البصائر والذخائر».. شجرة الجزالة اللغوية

23:21 مساء
قراءة 3 دقائق

تحتفظ رفوف المكتبة العربية القديمة، بالعديد من الكتب التي لا غنى للقارئ عنها مهما تغيّر الزمن، خاصة في مجال الأدب، ومن بينها كتاب «البصائر والذخائر» لأبي حيان التوحيدي، الذي عدّه الباحثون والمؤرخون من بين أمهات كتب الأدب العربي بمعناه الشامل، لما يحتوي عليه من ذخيرة معرفية، وما يتميّز به مؤلفه من حسن الأسلوب.
يقول أبو حيان التوحيدي في مقدّمته مخاطباً من سيقرأ الكتاب: «فإنك مع النشاط والحرص ستشرف على رياض الأدب، وقرائح العقول: من لفظ مصون، وكلام شريف، ونثر مقبول، ونظم لطيف، ومثل سيَّار، وبلاغة مختارة، وخطبة مُحيِّرة، وأدب حلو، ومسألة دقيقة، وجواب حاضر، ومعارضة واقعة، ودليل صائب، وموعظة حسنة، وحجة بليغة، وفقرة مكنونة، ولمعة ثاقبة، ونصيحة مُنتخلة، وإقناع مؤنس، ونادرة مُلهية، وعقل ملقّح، وقول منقّح، وهزل شيب بجد، وجدّ عُجِن بهزل، ورأي استنبط بعناية، وأمر بُيّت بليل، وسرٍّ كُتِمَ عن الدهر»، وهو ما لن يخيب ظن قارئ الكتاب فيه أبداً.
يعتبر «البصائر والذخائر» موسوعة اختيارات شاملة، تتكون من عشرة أجزاء، ضمّنها أبو حيان أروع ما حفظ وسمع وقرأ، وقد جعل لكل جزء مقدّمة وخاتمة خاصتين به، حتى ليخيل للقارئ أن كل جزء كتاب مستقل، ويتميز الكتاب عن غيره من الكتب في نواحٍ عديدة، منها أنه يذكر للقارئ الكثير مما هو جديد عليه، ولا يوجد في سواه من الكتب، إضافة إلى أن مؤلفه يذكر فيه بعض المواقف المتعلقة بتجاربه الشخصية، كما يذكر فيه آراءَه وتعليقاته الخاصة، التي تكشف الكثير عن الثقافة العربية القديمة.
واعتمد المؤلف في بسط تلك المجالات على القرآن الكريم، والسنة النبوية، وحجة العقل الذي يقول عنه: «وهو الوسيلة بين الله وبين الخلق، وبه يتميّز كلام الله، ويُعرف رسول الله، ويُنصر دين الله، ويُذبّ عن توحيد الله، ويُلتمس ما عند الله، ويُتحبّب إلى عباد الله، ويُتخلّص من عذاب الله، نوره أسطع من نور الشمس»، إضافة إلى اعتماده على رأي العين وما يرى فيه من اطمئنان لصحته، وكذلك ما اطلع عليه من حكمة الفلسفة اليونانية، وأمور الأمم الأخرى، ليجعل الكتاب سبباً لاستدعاء نشاط القارئ، واسترجاع ذكائه، ورحلةً في المأثور عن عقلاء القدماء، ومبدعيهم.
أسلوب شيِّق
من خلال تقديمه لمادة الكتاب يعمد المؤلف أحياناً إلى تقديم دروس لغوية مستنتجة من بعضها، وحين يقدم درساً في اللغة يسلسل الكلمات غالباً، بحيث يشرح الكلمة ويفسرها بكلمة أخرى، ثم يفسر تلك بمعنى آخر، حتى تظهر الكلمة الأصلية كشجرة متعددة الفروع، ثم يتبع ذلك بدرس في رواية الشعر، أو مختارات من الجمل النثرية ذات الأساليب الأدبية الرائعة، ويأتي بعد ذلك بنظرية فلسفية أو بعض الحكم الدالة، غير أنه عادة ما ينهي كل ذلك بحكايات، رامياً من وراء ذلك إلى تسلية القارئ.
وقد جاء الكتاب بأسلوب أبي حيان الشيّق، الذي كان وراء انتشار كلّ كتبه، والذي جعل الأدباء يصفونه بالجاحظ الثاني، وذلك لجزالة لغته، واستغنائه عن السجع في سرده، وتركيزه على التوصيل للقارئ عوضاً عن التَّقعُّر في العبارات، ليستطيع كل قارئ الولوج إلى عوالمه، للنهل من معارفه، والاستمتاع بالروائع الأدبية التي يوردها، سواء كان مجرد مُطالع، أو كان باحثاً أو دارساً.
للكتاب نسخ قليلة، منها نسخة محفوظة في مكتبة «الفاتح» في إسطنبول، توجد منها صورة بدار الكتب المصرية، وصورة بمكتبة القاهرة، ونسخة في «مكتبة كامبريدج»، ونسخة أخرى في الهند، وقد طبعته مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر في القاهرة سنة 1953م، بتحقيق كل من أحمد أمين والسيد أحمد صقر، كما طبعته دار صادر ببيروت سنة 1988م، بتحقيق الدكتورة وداد القاضي.
إضاءة
عليّ بن محمد بن العباس المعروف ب «أبي حيان التوحيدي»، فيلسوف متصوِّف، وأديب ونحوي بارع، يُعَدُّ من أعلام القرن الرابع الهجري، ولد في مدينة شيراز (نيسابور)، وأقام أغلب حياته ببغداد، وقد اختُلف في نسبته إلى التوحيد، وإن رجحتْ نسبتُه إلى نوع من تُمور العراق يُطلَق عليه «التوحيد» كان والده يتاجر فيه، وقيل نسبةً إلى المعتزلة الذين يُلقِّبون أنفسهم بأهل العدل والتوحيد، وكانت طفولته صعبة، فهو من عائلة فقيرة، وعندما توفي والده لم يجد في كنف عمّه الرعاية المأمولة، فوجد ملاذه بين الكتب، حيث عمل بمهنة الوراقة، فصار موسوعياً، وحاول الاتصال ب «ابن العميد» و«الصاحب ابن عَبَّاد» و«الوزير المُهَلَّبي»، ولكنه كان يعود في كلّ مرة خائب الآمال، فقام بإحراق كُتبه بعد أن تقدَّم في العمر، فلم يَنْجُ منها إلا ما نُسِخ قبل ذلك، وكانت وفاته في شيراز، بعد هروبه من وعيد بالقتل من «الوزير المُهَلَّبي»، بسبب وشاية من خصومه، وبعد أنْ أثرى المكتبة العربية بالكثير من روائع الكُتب.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"