وليد عثمان
مما ينشغل به المعنيّون بالتاريخ والمهتمون بحركته وتفسيره هو العلاقة بينه وبين صنّاعه على مر التاريخ. وغاية هؤلاء البحث عن إجابة لسؤال: أيهما يصنع الآخر: التاريخ أم أبطاله؟ كالعادة، ينقسم المعنيون بالإجابة عن السؤال إلى فريقين، أحدهما ينتصر لقوة الحدث وأسبقيتها على ظهور الشخصية التاريخية المرتبطة به، والآخر يرى في الإنسان المحرك الأهم للوقائع والمتحكم في إيقاعاتها مستفيداً من بقية العناصر التي تسهم في صنع التاريخ.
وكثيرون، خاصة في المشرق، من مؤيدي الرأي الثاني الذي يعلي من دور الإنسان في صناعة التاريخ وتوجيه أحداثه، ولولا ذلك ما كان للقدرات الفردية أثر، ولا كان للفروق بين الشخصيات الفاعلة في مسيرة الحياة معنى، ولا جاز الاستناد إلى الحكمة ونفاذ البصيرة والقدرة على التأثير في الآخرين عند التمييز بين من يتولون مسؤولية القيادة.
إن تجاربنا تقول إن الإنسان أهم عناصر صناعة التاريخ، فلا الجغرافيا يمكن أن تنتج تأثيراً بغير فاهم لها قادر على استثمار مزاياها، ولا القوة البشرية تستطيع الصمود في وجه التحولات ما لم تملك الموجّه القادر على استنهاض الطاقات، وإدارة أشكال التعامل مع المحيطيْن القريب والبعيد.
في تجاربنا هذه، سيبقى المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، عنواناً لقدرة البشر على صناعة التاريخ، ولو لم تتوفر في البداية كل العناصر اللازمة لإقناع الآخرين بأن ذلك ممكن. وسيبقى مؤسس الإمارات دليلاً أبدياً على أن الإنسان حين يفيض الله عليه بالحكمة والنور الكاشف للنفوس وتفاصيل الآتي، يستطيع بسهولة أن يجمع حوله من يؤمن بأن لا مستحيل أمام الإرادة البشرية، ومن يعاونه في ترجمة ذلك.
إن من يمرون على مواقع المسؤولية لا حصر لهم، لكنّ من يصطفّون لصناعة التاريخ نادرون، يرون ما لا يراه الآخرون، يقدرون على الحلم ويبصرون تحقيقه قريباً ولو كان مخالفاً لكل الحسابات البشرية المعتادة.
المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، أحد صناع التاريخ بغير جدال، قرأ بفراسة ابن الصحراء الوقائع من حوله ولم ينتظر تفاعلاتها، بل اشتبك معها ورآها لحظة مناسبة لتحقيق حلمه الأثير: الاتحاد. سعى في كل الاتجاهات، يبشّر بالاتحاد ويراه قريباً، ويحشد شركاء في الحلم وصياغة صفحة فريدة في مسار التاريخ اسمها الإمارات..
كانت الإمارات بكل ملامح البداية والانطلاق والمستقبل تقف حقيقة أمام عيني زايد، ورغم غيابه الجسدي، بقيت تتشكل كما أرادها دولةً خضراء تخالف قواعد الجغرافيا، وتعلي قيمة الإنسان الخارج من صُلبها، أو الآتي إليها باحثاً عن حياة.
إن أمثال زايد ليسوا رجال مرحلة، بل هم حراس مسيرة يبقون ضميراً حاكماً، ومرجعية للأخلاق والقيم وكل المعاني الإنسانية.
المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، صانع تاريخ مضيء تتوالى فصوله وتمنحه حضوراً أبدياً.