خميس آل علي *
منذ قيام دولة إسرائيل في عام 1948 حظي اليهود المتزمّتون دينياً «الحريديم» بمعاملة خاصة أرسى دعائمها ديفيد بن غوريون، مؤسس إسرائيل وأول رئيس وزراء لها، الذي ارتأى حينها استرضاء «الحريديم» ومنحهم عقداً اجتماعياً استثنائياً، يشمل إعفاءهم من الخدمة العسكرية الإلزامية والضرائب والعديد من الواجبات الوطنية، سبيلاً ضرورياً لضمان استمرار تدفق هجراتهم نحو إسرائيل.
وبرغم أن هذا الإعفاء استند عملياً إلى قانون وضعه الجيش وليس إلى تشريع برلماني، فإن هذا القانون كان كافياً ليظل المرجعية التي يُستند إليها في إعفاء «الحريديم» من الخدمة العسكرية، منذ قيام الدولة وحتى يومنا هذا.
ولكن في ظل الخسائر الكبيرة التي تكبّدتها مختلف شرائح المجتمع الإسرائيلي في حربَي غزة ولبنان خلال العامين الماضيين، بات استمرار العمل بهذا العقد أمراً غير مقبول اجتماعياً، وأصبح من الضروري إشراك «الحريديم» في تحمّل العبء الحربي.. وهنا يبرز تساؤل لدى المراقبين للشأن الإسرائيلي هو: هل كانت الحرب الدافع الوحيد وراء تعبئة المجتمع الإسرائيلي ضد «الحريديم»؟
الجواب: لا، ولكن يمكن القول: إن الحرب كانت القشة الذي كشفت عن تراكمات تاريخية من الرغبات في تغيير وضع «الحريديم»، فالمسألة اليوم أصبحت أكثر إلحاحاً من أي وقتٍ مضى، ليس من منظور مجتمعي فحسب، بل من زاوية قومية استراتيجية أيضاً، فعند تفحّص معدلات النمو السكاني بين اليهود في إسرائيل، نجد أن معدلات الزيادة السنوية لدى «الحريديم» بلغت 4% تقريباً في السنوات الأخيرة، وهو ما يعني أن هذه الفئة ستشكل ثلث سكان الدولة بنهاية العقد الحالي، وهذا بحد ذاته مؤشر ينذر بتداعيات خَطِرة.
وإلى جانب إعفائهم من الخدمة العسكرية، لا يتلقى «الحريديم» تعليماً يشمل اللغة الإنجليزية والعلوم والرياضيات، ويكتفي معظم شبابهم بتعلُّم التوراة في مدارس دينية تمولها الدولة من الضرائب المفروضة على بقية شرائح المجتمع الإسرائيلي.
ومن منظور استراتيجي استشرافي، لم يَعُد أمام صانع القرار الإسرائيلي خيار سوى التحرك سريعاً لمحاولة تغيير طبيعة مجتمع «الحريديم»، عبر إدماج عاملين جديدين، هما: الخدمة في الجيش، حتى إن كانت هذه الخدمة وفقاً لضوابط هذه الفئة وخصوصياتها، والتحفيز على تعلم اللغة الإنجليزية والعلوم والرياضيات، وذلك لكي تتمكن الدولة من الحفاظ على مكانتها العالمية في مجالات العلوم والتكنولوجيا، ولكيلا يتحول التغيّر الديمغرافي الداخلي وبالاً عليها.
سياسياً، وجد «الحريديم» في حاجة بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الحالي، إلى وقوفهم خلفه وإبقائه على رأس السلطة السياسية لأطول مدة ممكنة، فرصةً لتمرير مشروع قانون في الكنيست يصب في مصلحتهم، إلا أن جميع محاولاتهم باءت بالفشل حتى هذه اللحظة نظراً إلى رفض شريحة واسعة من أعضاء الائتلاف الحاكم نفسه لهذا القانون.
فعلى الرغم من تصنيفهم جزءاً من يمين الطيف السياسي الإسرائيلي، فإنهم لا يتفقون مع كثيرٍ من المواقف التي يتّخذها الائتلاف الحاكم اليوم، وذلك لدوافع مصلحيّة قطاعيّة، ففي مسألة حرب غزة كان حزب «شاس»، الممثل لليهود «الحريديم» الشرقيين، وزعيمه أرييه درعي، العضو في المجلس السياسي-الأمني المصغر الذي يدير الحرب، من الداعمين للتوصّل إلى صفقات وقف إطلاق نار، وتبادل للرهائن، على عكس زملائه من الأحزاب اليمينية الأخرى، التي تعرف بأنها أحزاب يمينية قومية دينية متشدّدة، مثل بن غفير وسموتريتش، اللذين عارضا التوصل إلى هذه الصفقات في كل مراحل الحرب.
ومع استئناف إسرائيل حربها على قطاع غزة بعد فشل الوساطات الدولية والإقليمية في إيجاد صيغة توافقية تنهي الحرب، واستمرار حالة التعبئة الحربية التي تشهدها إسرائيل، تزداد صعوبة مهمة «الحريديم»، وهو ما يفتح المجال أمام سيناريوهات لا تستبعد أن يسبب هذا الاستعصاء، إلى جانب مقاومة «الحريديم» محاولات الدولة إشراكهم في تحمل العبء الوطني، تفكّكَ حكومة نتنياهو، برغم كونها الحكومة اليمینية الأكثر تشدداً وتجانساً في تاريخ إسرائيل، وذلك في أي وقت قبل نهاية ولايتها القانونية في النصف الثاني من عام 2026.