عادي

«تذكار سولفرينو»

00:18 صباحا
قراءة 3 دقائق
يوسف الحسن

د. يوسف الحسن

في استعادتنا لما قاله المغفور له الشيخ زايد، طيب الله ثراه، في مقالنا أمس، عن الصليب الأحمر والهلال الأحمر، نستحضر اليوم قصة تأسيس الصليب الأحمر الدولي، والمرتبطة بشخصية سويسرية، وُلدت في جنيف عام 1828، اسمها هنري دونان، لأسرة برجوازية بروتستانتية، وصاحبة أنشطة خيرية، ورعاية فقراء ومعوزين ومرضى.
تأثر دونان بالمناخ الثقافي والديني، والذي كان سائداً حينئذ في سويسرا، وساهم في إنشاء «جمعية الشبان المسيحيين» في مدينته، وانخرط في أعمال تجارية في سويسرا وفرنسا وشمال إفريقيا، وتعرّف إلى الإسلام في تونس والجزائر، وتعلم اللغة العربية، وتبنى أفكاراً لما يسمى ب «إحياء الشرق» في ظل مشاريع أوروبية كانت منتشرة في أواسط القرن التاسع عشر، وفي الوقت نفسه، اصطدم مع سلطات الاحتلال الفرنسي في الجزائر، ونظراً لتركيزه على العمل الإنساني، فقد السيطرة على أعماله التجارية، وفشل في مشاريع أخرى قيل إنها كانت تسعى لمساعدة مهاجرين مسيحيين ويهود من أوروبا الشرقية إلى فلسطين.
في عام 1859، ذهب هنري إلى مقر إقامة نابليون في شمال إيطاليا، لالتماس امتيازات لمشروعات تجارية منه، وصادف وصوله إلى قرية مجاورة لمدينة سولفرينو، نشوب معركة دموية بين القوات الفرنسية والسردينية من ناحية، وقوات نمساوية من ناحية أخرى، وكانت حصيلتها آلاف القتلى والجرحى المهملين دون إسعاف، فانخرط في تنظيم مساعدات طبية، وسمي بين المتطوعين ب «الرجل الأبيض» لأن ملابسه كانت كلها بيضاء، وأصدر كتاباً أسماه «تذكار سولفرينو»، عبَّر فيه عن معاناة وآلام أكثر من أربعين ألف جريح، تُركوا بلا رعاية في الشوارع والكنائس، واقترح في كتابه المذكور، وبلغة عاطفية، تكوين لجان إغاثة للجرحى في الحرب، ووضع اتفاقية دولية لتنظيم الإغاثة، وقد انتشرت رؤيته وأفكاره ولقيت ترحيباً دولياً واسعاً. وفي العام التالي لصدور الكتاب وترجمته إلى لغات أوروبية عديدة، اجتمع خمسة أفراد من بينهم دونان وشكلوا لجنة لتصبح النواة الأولى للجنة دائمة دولية لإسعاف الجرحى في الحرب.
عقدت هذه اللجنة مؤتمراً دولياً في جنيف حضره ممثلون لستة عشر بلداً، وشهد المؤتمر ولادة «الصليب الأحمر»، وفي 22 أغسطس/آب 1864 وقّعت 12 دولة في مؤتمر دبلوماسي دولي على اتفاقية جنيف الأولى التي تلزم الجيوش برعاية الجنود الجرحى، وضمان الحماية والمساعدة غير المنحازة في أوقات الحرب، وتكريماً لسويسرا، اتخذت اللجنة الدولية ألوان العلم السويسري «مقلوباً»، شارة لها، وهو الصليب بلون أحمر على أرضية بيضاء، في حين أن لون العلم السويسري هو صليب أبيض على أرضية حمراء.
وبعدها بسنوات قليلة، طلبت الإمبراطورية العثمانية استخدام شارة «الهلال الأحمر»، كما طالبت، في ما بعد، الإمبراطورية الفارسية، بشعار الأسد والشمس الأحمرين، وقد دخلت هذه الشارات حيز التنفيذ في عام 1929، ثم تراجعت إيران في عام 1980 عن استخدام شارة الأسد والشمس، لتصبح شارتا الصليب والهلال هما الشارتين المعتمدتين دولياً.
وهكذا تحولت الفكرة التي قدمها هنري دونان في كتابه «تذكار سولفرينو» إلى واقع، وفتح الباب لتأسيس اتفاقية «القانون الدولي الإنساني» المعاصر، ذات الطابع متعدد الأطراف، والتي وضعت قواعد مكتوبة دائمة لحماية ضحايا الحروب والنزاعات.
ومن نافل القول أن قواعد القانون الدولي الإنساني يمكن العثور عليها في ثقافات وحضارات وعقائد إنسانية كثيرة، وهي مبادئ سامية، عالجت الصراع بين البشر، وأرست معاني الاعتبارات الإنسانية وحمت الأفراد المدنيين من ويلات الحروب والعنف المسلح.
تحوَّل يوم ميلاد هنري دونان في الثامن من مايو/آيار إلى يوم عالمي للصليب الأحمر والهلال الأحمر، وكان أول فائز بجائزة نوبل للسلام في عام 1901.
بُنيت له نصب تذكارية، وتأسست باسمه جمعيات ومتاحف في مدن عديدة، وقيل عن كتابه الشهير «إن المرء حينما يقرأ الكتاب، سيلعن الحرب». وقال هنري دونان في رسالة أخيرة له: «إن نزع السلاح يجب أن يبدأ بالقلوب، ويجب أن تشيع الأخوة الإنسانية بين البشر»، نعم «الأخوة الإنسانية».

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"