برز كتاب «زهر الآداب وثمر الألباب» لأبي إسحاق الحصري القيرواني في مكتبتنا بوصفه دُرَّةً من أمهات كتب الأدب العربي القديم، حيث ركّز فيه المُؤلف على المحتوى الأدبي أكثر من غيره من العلوم اللغوية الأخرى، وحصر ما وصل إليه من الشعر والنثر، حتى وُصف بأنه مؤلَّف جمع كل غريبة، فكان مرجعاً مهماً للاطلاع على مادة أدبية نادرة.
عن تأليف الكتاب يتحدث الحصري في مقدمته فيقول: «فهذا كتاب اخترت فيه قطعة كاملة من البلاغات، في الشعر والخبر، والفصول والفِقَر، مما حَسُن لفظه ومعناه، واستُدِلَّ بفحواه على مغزاه، ولم يكن شارداً حوشياً، ولا ساقطاً سوقياً»، وهو ما جعله خزانة من خزائن الأدب العربي العامرة والنادرة، بما حواه من معلومات عن الأدب والأدباء، وكل ما وصلت إليه مستويات الأساليب الأدبية في القرن الخامس الهجري، وما يتعلق بحياة أهل ذلك العصر من عادات اجتماعية مثالية.
لم يكن الحصري من المؤلفين الذين يحفلون بالترتيب، والتبويب المدروس للموضوعات، وإنما يقدم مادته بسرد عفوي، فينصرف من الجد إلى الهزل، ومن الأوصاف إلى التشبيهات، ومن الشعر إلى النثر، وهي طريقة محبوبة لدى بعض القراء، خاصة في الكتب الأدبية، لأنها تخرجهم من الإطار التعليمي المُنظّم، إلى السياحة الفكرية الحرة، فكانت مادة هذا الكتاب عبارة عن مجموعة نصوص وأخبار جمعها المؤلف في أزمان متباعدة، وبطرائق متنوعة، كالقراءة والرواية، ثم ألف بينها دون أن ينسقها، أو يُعنَى بتمحيصها ومناقشتها والتعليق عليها.
إلا أن القارئ لا يفوته كذلك ما انصرف إليه المؤلف في الكتاب من عناية بموضوع الوصف، حيث أكثر من إيراد النصوص في وصف الليل، والماء، والرعد، والبرق وغيرها، وأكثر من سجع كلامه الوارد فيه، والذي كان من الأساليب المحببة في ذلك العصر.
محتوى
يعتبر هذا الكتاب أدبياً محضاً، حيث لم يتناول فيه المؤلّف النحو، ولا التّصريف ولا اللّغة، بل قصره على فنون القول من شعر ونثر، وما يتصل بذلك من ضروب البلاغة، وجمال الصّياغة، وإصابة التشبيه وحُسن الإنشاء وجودة الخطابة، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يتحدث عن الكثير من الآداب الاجتماعية التي كانت معروفة في عصره، فيذكر ما يستحسن في معاملة الملوك والأمراء، ويتحدث عن فضل الليل، والحرص على الأدب، وما يجب على الكُتّاب والنُّساخ الالتزام به، وغير ذلك من واجبات الناس وحقوقهم.
وغلب على تلك الموضوعات الجدُّ، فكانت محصورة في دائرة الخُلق، والدين، بعيدة عن العبث والمجون، لأن فيها أخبار الرسول الكريم، والصحابة، والتابعين وأقوالهم، وهو ما رأى فيه البعض رغبةً من المؤلف في عدم خلط أخبار السّلف الصالح بما لا يناسبها من الكلام والمواقف، وقد يتأكد لنا ذلك حين ندرك أن الحصري ألف كتاباً آخر سمّاه «جمع الجواهر في المُلَح والنوادر»، واشتهر عند البعض باسم «ذيل زهر الآداب»، حيث أورد فيه مادة هزلية ربما تحاشى إيرادها في كتابه الذي بين أيدينا.
كان من أبرز المهتمين بهذا الكتاب الدكتور زكي مبارك، الذي أتمّ ضبطه، وتصحيحه، وشرحه سنة 1925م، في النسخة التي عمَد فيها كذلك إلى تفصيل الكتاب، حيث وضع لكل موضوع عنواناً، بعد أن كان المؤلف مكتفياً بالقليل من العناوين، ومقتصراً على الانتقال من معنى إلى معنى، ومن غرض إلى آخر، ويقول د. زكي مبارك عن قيمة هذا الكتاب بالمقارنة مع سواه من أمهات كتب الأدب العربي: «كان المتقدمون يعنون بدراسة الكامل للمبرد، والبيان والتبيين للجاحظ، وأدب الكاتب لابن قتيبة، والنوادر لأبي علي القالي، وكانت هذه الكتب أصول الأدب عندهم كما ذكر ابن خلدون، وعندي أن زهر الآداب أغزر مادة، وأكبر قيمة من جميع تلك المصنّفات، لأن ذوق الحصري ذوق أدبي صرف، أما أولئك فقد كانت أهواؤهم موزعة بين اللغة، والرواية، والنحو، والتصريف».
وقد طبع الكتاب عدة مرات، من بينها طبعة دار الجيل لنسخة د. زكي مبارك، وهي الطبعة التي حقّقها ودَقّقها محمد محيي الدين عبد الحميد، ثم طبعة دار الفكر العربي ببيروت، بتحقيق علي محمد البجاوي.
إضاءة
أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن تميم الحصري القيرواني، المتوفى سنة 453ه، أديب من أدباء المغرب، كان مؤلفاً، شاعراً، وناثراً بليغاً، وقد عُني به كثير من كتاب التراجم، مثل ابن رشيق في «الأنموذج»، وابن بسّام في «الذخيرة»، والرشيد بن الزبير في «الجنان»، وابن خلكان في «وفيات الأعيان»، كان شباب القيروان يكرّمونه، ويجتمعون عنده للتعلّم منه، وكان معاصراً للشاعر المشهور أبي الحسن الحصري القيرواني صاحب القصيدة المشهورة «ياليل الصّبّ»، وبينهما قرابة، وقد ترك أبو إسحاق الحصري عدة مؤلفات أخرى، منها: «نُور الطَّرْف ونَور الظَّرْف»، و«جمع الجواهر في المُلَح والنوادر»، و«المَصُون في سرِّ الهوى المَكنُون».
برز كتاب «زهر الآداب وثمر الألباب» لأبي إسحاق الحصري القيرواني في مكتبتنا بوصفه دُرَّةً من أمهات كتب الأدب العربي القديم، حيث ركّز فيه المُؤلف على المحتوى الأدبي أكثر من غيره من العلوم اللغوية الأخرى، وحصر ما وصل إليه من الشعر والنثر، حتى وُصف بأنه مؤلَّف جمع كل غريبة، فكان مرجعاً مهماً للاطلاع على مادة أدبية نادرة.
عناوين متفرقة
قد يعجبك ايضا







